قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ﴾ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ وَبَيْنَكُمُ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (سَوَاءٍ قَصْدًا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالنَّصْبِ، وَلِغَيْرِهِ بِالْجَرِّ فِيهِمَا وَهُوَ أَظْهَرُ عَلَى الْحِكَايَةِ، لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ: ﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِالنَّصْبِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ الْحَوْفِيُّ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ اسْتَوَتِ اسْتِوَاءً. وَالْقَصْدُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ: الْوَسَطُ الْمُعْتَدِلُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) أَيْ عَدْلٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَنَسَبَهَا الْفَرَّاءُ إِلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ سِيَاقُ الْآيَةِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: ﴿أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْكَلِمَةُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ، فَتُطْلَقُ الْكَلِمَةُ عَلَى الْكَلِمَاتِ لِأَنَّ بَعْضَهَا ارْتَبَطَ بِبَعْضٍ فَصَارَتْ فِي قُوَّةِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، بِخِلَافِ اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ بِطُولِهِ، وَقَدْ شَرَحْتُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَأَحَلْتُ بَقِيَّةَ شَرْحِهِ عَلَى الْجِهَادِ فَلَمْ يُقَدَّرْ إِيرَادُهُ هُنَاكَ. فَأَوْرَدْتُهُ هُنَا. وَهِشَامٌ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ) إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ إِلَى أُذُنِي يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ يُجِيبُهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ التَّحْدِيثَ مُتَعَلِّقًا بِفَمِهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأُذُنِهِ. وَاتَّفَقَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ كُلَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ إِلَّا مَا وَقَعَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: الْتَمِسُوا لِي هَاهُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ الْحَدِيثَ. كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُفَصَّلَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ فَاعِلَ قَالَ الَّذِي وَقَعَ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: قَالَ وَكَانَ دِحْيَةُ إِلَخْ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا أَبُو سُفْيَانَ، وَفَاعِلُ قَالَ: وَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هُنَا أَحَدٌ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ.
قَوْلُهُ: (هِرَقْلُ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الرِّوَايَاتِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ سُكُونَ الرَّاءِ وَكَسْرَ الْقَافِ، وَهُوَ اسْمٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ فَلَا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ.
قَوْلُهُ: (فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجَاءَنَا رَسُولُهُ، فَتَوَجَّهْنَا مَعَهُ، فَاسْتَأْذَنَ لَنَا فَأَذِنَ فَدَخَلْنَا. وَهَذِهِ الْفَاءُ تُسَمَّى الْفَصِيحَةُ، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مَحْذُوفٍ قَبْلَهَا هُوَ سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهَا، سُمِّيَتْ فَصَيْحَةً لِإِفْصَاحِهَا عَمَّا قَبْلَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَصَاحَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا فَوُصِفَتْ بِالْفَصَاحَةِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَلِهَذَا لَا تَقَعُ إِلَّا فِي كَلَامٍ بَلِيغٍ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مَنْ يُوجَدُ مِنْ قُرَيْشٍ. وَوَقَعَ فِي الْجِهَادِ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدْنَا رَسُولَ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّامِ، فَانْطَلَقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِلَى إِيلِيَاءَ وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْضِ غَزَّةُ، وَقَيْصَرُ هُوَ هِرَقْلُ، وَهِرَقْلُ اسْمُهُ وَقَيْصَرُ لَقَبُهُ.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ فَأَتَوْهُ وَهُوَ بِإِيلِيَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ هُنَاكَ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ وَاسْتُشْكِلَتْ وَوُجِّهَتْ أَنَّ الْمُرَادَ الرُّومُ مَعَ مَلِكِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ.
قَوْلُهُ: (فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا. فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمَّ دَعَا بِتُرْجُمَانِهِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هِرَقْلَ خَاطَبَهُمْ أَوَّلًا بِغَيْرِ تُرْجُمَانٍ، ثُمَّ دَعَا بِالتُّرْجُمَانِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute