وَالزَّجْرِ الْعَنِيفِ، وَاسْتِعْظَامُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَاسْتِشْنَاعِهِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَسَالِيبٍ مُتْقَنَةٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَافٍ فِي بَابِهِ، بَلْ مَا وَقَعَ مِنْهَا مِنْ وَعِيدِ عبدةِ الْأَوْثَانِ إِلَّا بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِظْهَارِ عُلُوِّ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتَطْهِيرِ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمْ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ عِنْدَ عَائِشَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ) يُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ مَا دَامَ احْتِمَالُ عَدَمِهِ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَقْطَعْ نَفَقَةَ مِسْطَحٍ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ ذَنْبِهِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ) تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (وَفَقْرِهِ) عِلَّةٌ أُخْرَى لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ) أَيْ عَنْ عَائِشَةِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا
قَوْلُهُ: (وَلَا يَأْتَلِ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾ قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ انْتَهَى، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْقَائِلُ:
فَإِنَّ قَدْرَ الذَّنْبِ مِنْ مِسْطَحٍ … يَحُطُّ قَدْرَ النَّجْمِ مِنْ أُفُقِهِ
وَقَدْ جَرَى مِنْهُ الَّذِي قَدْ جَرَى … وَعُوتِبَ الصِّدِّيقُ فِي حَقِّهِ
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
قَوْلُهُ: (فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ) أَيْ رَدَّهَا إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: وَعَادَ لَهُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَارَ يُعْطِيهِ ضِعْفَ مَا كَانَ يُعْطِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) أَيْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. (أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي) أَيْ مِنَ الْحِمَايَةِ فَلَا أَنْسُبُ إِلَيْهِمَا مَا لَمْ أَسْمَعْ وَأُبْصِرْ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي) أَيْ تُعَالِينِي مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ؛ أَيْ: تُطْلَبُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ وَالْحَظْوَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ مَا أَطْلُبُ، أَوْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الَّذِي لَهَا عِنْدَهُ مِثْلُ الَّذِي لِي عِنْدَهُ. وَذَهِلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ سَوْمِ الْخَسْفِ، وَهُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ، وَالْمَعْنَى تُغَايِظُنِي. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ: سَامَ، وَلَكِنْ: سَاوَمَ.
قَوْلُهُ: (فَعَصَمَهَا اللَّهُ) أَيْ حَفِظَهَا وَمَنَعَهَا.
قَوْلُهُ: (بِالْوَرَعِ) أَيْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى دِينِهَا وَمُجَانَبَةِ مَا تَخْشَى سُوءِ عَاقِبَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَطَفِقَتْ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا، أَيْ جَعَلَتْ أَوْ شَرَعَتْ. وَحَمْنَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَكَانَتْ تَحْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (تُحَارِبُ لَهَا) أَيْ تُجَادِلُ لَهَا وَتَتَعَصَّبُ وَتَحْكِي مَا قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ لِتَنْخَفِضَ مَنْزِلَةَ عَائِشَةَ وَتَعْلُو مَرْتَبَةُ أُخْتِهَا زَيْنَبَ.
قَوْلُهُ: (فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ) أَيْ حَدَّثَتْ فِيمَنْ حَدَّثَ، أَوْ أَثِمَتْ مَعَ مَنْ أَثِمَ، زَادَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَفُلَيْحٌ، وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُهُمْ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا مِنْ حَدِيثِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ، زَادَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ لَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي سَنَةِ قَتْلِهِ، وَفِي الْغَزَاةِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ فِيهَا فِي أَوَائِلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.
وَوَقَعَ فِي آخِرِ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: وَكَانَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ مِسْطَحٌ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ