للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

مَا فِيهِمَا مِنْ شَمْسٍ وَقَمَرٍ وَنَهْرٍ وَنَبَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَجَابَتَا إِلَى ذَلِكَ كَانَ كَالْإِعْطَاءِ، فَعَبَّرَ بِالْإِعْطَاءِ عَنَ الْمَجِيءِ بِمَا أُودِعَتَاهُ. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ مُوَجَّهًا وَثَبَتَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ فَأَيُّ مَعْنًى لِإِنْكَارِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَعْنَى الْمَجِيءِ نَفَى أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ، وَهَذَا عَجِيبٌ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الشَّيْءِ قَوْلَانِ بَلْ أَكْثَرُ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ اللَّهُ ﷿ لِلسَّمَاوَاتِ أَطْلِعِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شَقِّقِي أَنْهَارَكِ وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ، قَالَتَا: أَتَيْنَا طَائِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا آتَيْنَا بِالْمَدِّ فَفَسَّرَهَا عَلَى ذَلِكَ.

قُلْتُ: وَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقِرَاءَاتِ أَنَّهَا قِرَاءَتُهُ، وَبِهَا قَرَأَ صَاحِبَاهُ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ: قِيلَ إِنَّ الْبُخَارِيَّ وَقَعَ لَهُ فِي آيٍّ مِنَ الْقُرْآنِ وَهْمٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْهَا وَإِلَّا فَهِيَ قِرَاءَةٌ بِلُغَتِهِ، وَجْهُهُ أَعْطِيَا الطَّاعَةَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُعْطِي الطَّاعَةَ لِفُلَانٍ، قَالَ: وَقَدْ قُرِئَ: ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْفِتْنَةُ ضِدُّ الطَّاعَةِ. وَإِذَا جَازَ فِي إِحْدَاهُمَا جَازَ فِي الْأُخْرَى انْتَهَى. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ آتَيْنَا بِالْمَدِّ بِمَعْنَى الْمُوَافَقَةِ، وَبِهِ جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مَفْعُولًا وَاحِدًا وَالتَّقْدِيرُ: لِتُوَافِقَ كُلٌّ مِنْكُمَا الْأُخْرَى، قَالَتَا تَوَافَقْنَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَفْعُولَانِ وَالتَّقْدِيرُ: أَعْطِيَا مَنْ أَمَرَكُمَا الطَّاعَةَ مِنْ أَنْفُسِكُمَا قَالَتَا أَعْطَيْنَاهُ الطَّاعَةَ. وَهُوَ أَرْجَحُ لِثُبُوتِهِ صَرِيحًا عَنْ تُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ.

قَوْلُهُ: ﴿قَالَتَا﴾ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ الْفِرْقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ جَعَلَ السَّمَاوَاتِ سَمَاءً وَالْأَرَضِينَ أَرْضًا. ثُمَّ ذَكَرَ لِذَلِكَ شَاهِدًا. وَهِيَ غَفْلَةٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا لَفْظُ سَمَاءٍ مُفْرَدٍ وَلَفْظُ أَرْضٍ مُفْرَدٍ، نَعَمْ قَوْلُهُ طَائِعِينَ عَبَّرَ بِالْجَمْعِ بِالنَّظَرِ إِلَى تَعَدُّدِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ مِنَ الْعُقَلَاءِ لِكَوْنِهِمْ عُومِلُوا مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ، وَهُوَ مِثْلُ: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْمِنْهَالُ) هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ صَدُوقٌ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْمَشِ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَتَرَكَهُ شُعْبَةُ لِأَمْرٍ لَا يُوجِبُ فِيهِ قَدْحًا كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ قَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَكَذَا النَّسَفِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ) كَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الَّذِي صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ رَأْسَ الْأَزَارِقَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَكَانَ يُجَالِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ وَيَسْأَلُهُ وَيُعَارِضُهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا وَقَعَ سُؤَالُهُ عَنْهُ صَرِيحًا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ - ﴿فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ - وهَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ الْحَدِيثَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ حَسْبُ، وَهِيَ إِحْدَى الْقِصَصِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: قَدِمَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَنَجْدَةُ بْنُ عُوَيْمِرٍ فِي نَفَرٍ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ مَكَّةَ فَإِذَا هُمْ بِابْنِ عَبَّاسٍ قَاعِدًا قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ وَالنَّاسُ قِيَامًا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ لَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ: أَتَيْتُكَ لِأَسْأَلَكَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ، سَاقَهَا فِي وَرَقَتَيْنِ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَعْضَ الْقِصَّةِ وَلَفْظُهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فَقَالَ: إِنِّي أَحْسِبُكَ قُمْتَ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِكَ فَقُلْتُ لَهُمْ أَيْنَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأُلْقِي عَلَيْهِ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا جَمَعَ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَنْ وَحَّدَهُ، فَيَسْأَلُهُمْ فَيَقُولُونَ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾