فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ وَأَنْزَلَ اللَّهُ ﷿ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ ﴿قُلْ أُوحِيَ﴾ كَذَا لَهُمْ. وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ الْجِنِّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِبَدًا أَعْوَانًا) هُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَكَذَا، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَهِشَامٍ وَحْدَهُ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، فَالْأُولَى جَمْعُ لِبْدَةٍ بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ نَحْوِ قِرْبَةٍ وَقِرَبٍ، وَاللِّبْدَةُ وَاللِّبَدُ الشَّيْءُ الْمُلَبَّدُ أَيِ الْمُتَرَاكِبُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَبِهِ سُمِّيَ اللِّبَدُ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَعْنَى: كَادَتِ الْجِنُّ يَكُونُونَ عَلَيْهِ جَمَاعَاتٍ مُتَرَاكِبَةٍ مُزْدَحِمِينَ عَلَيْهِ كَاللِّبْدَةِ. وَأَمَّا الَّتِي بِضَمِّ اللَّامِ فَهِيَ جَمْعُ لُبْدَةٍ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ مِثْلِ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَالًا لُبَدًا؛ أَيْ كَثِيرًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا بِضَمَّتَيْنِ فَقِيلَ: هِيَ جَمْعُ لَبُودٍ، مِثْلُ صُبُرٍ وَصَبُورٍ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، فَكَأَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ بِضَمَّةٍ ثُمَّ فَتْحَةٍ مُشَدَّدَةٍ جَمْعُ لَابِدٍ كَسُجَّدٍ وَسَاجِدٍ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَهُوَ أَنَّ الْجِنَّ تَزَاحَمُوا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ لَمَّا اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يُطْفِئُوا هَذَا النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ فِي اللَّفْظِ وَاضِحٌ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ لَكِنَّهُ فِي الْمَعْنَى مُخَالِفٌ.
قَوْلُهُ: (بَخْسًا: نَقْصًا) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ.
قَوْلُهُ: (انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَذَا اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا وَفِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمُ، انْطَلَقَ. . . إِلَخْ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِالسَّنَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْبُخَارِيُّ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَمْدًا لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَثْبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَ عَلَى الْجِنِّ، فَكَانَ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَى نَفْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فَأَخْرَجَ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَتَانِي دَاعِيَ الْجِنِّ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِالتَّعَدُّدِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (فِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْمَبْعَثِ فِي بَابِ ذِكْرِ الْجِنِّ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ، وَابْنَ سَعْدٍ ذَكَرَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ في ذي الْقِعْدَةِ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْمَبْعَثِ لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّ الْجِنَّ رَأَوْهُ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَالْإِسْرَاءُ كَانَ عَلَى الرَّاجِحِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، فَتَكُونُ الْقِصَّةُ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ. لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، لِأَنَّ مُحَصَّلَ مَا فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ ﷺ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَهُنَا قَالَ أنَّهُ انْطَلَقَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ وُجْهَةً أُخْرَى. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ لَاقَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَرَافَقُوهُ.
قَوْلُهُ: (عَامِدِينَ)؛ أَيْ قَاصِدِينَ.
قَوْلُهُ: (إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَآخِرُهُ ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: الصَّرْفُ لِأَهْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute