الْحِجَازِ وَعَدَمُهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهُوَ مَوْسِمٌ مَعْرُوفٌ لِلْعَرَبِ. بَلْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَوَاسِمِهِمْ، وَهُوَ نَخْلٌ فِي وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَهُوَ إِلَى الطَّائِفِ أَقْرَبُ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَمْيَالٍ، وَهُوَ وَرَاءَ قَرْنِ الْمَنَازِلِ بِمَرْحَلَةٍ مِنْ طَرِيقِ صَنْعَاءِ الْيَمَنِ. وَقَالَ الْبَكْرِيُّ: أَوَّلُ مَا أُحْدِثَتْ قَبْلَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ تَزَلْ سُوقًا إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَخَرَجَ الْخَوَارِجُ الْحَرُورِيَّةُ فَنَهَبُوهَا فَتُرِكَتْ إِلَى الْآنِ، كَانُوا يُقِيمُونَ بِهِ جَمِيعَ شَوَّالٍ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَفَاخَرُونَ وَتُنْشِدُ الشُّعَرَاءُ مَا تَجَدَّدَ لَهُمْ، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ، كَقَوْلِ حَسَّانَ:
سَأَنْشُرُ إِنْ حَيِيتُ لَكُمْ كَلَامًا … يُنْشَرُ فِي الْمَجَامِعِ مِنْ عُكَاظٍ
وَكَانَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ بِهِ مِنْهُ يُقَالُ لَهُ: الِابْتِدَاءُ، وَكَانَتْ هُنَاكَ صُخُورٌ يَطُوفُونَ حَوْلَهَا، ثُمَّ يَأْتُونَ مَجَنَّةَ فَيُقِيمُونَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ. ثُمَّ يَأْتُونَ ذَا الْمَجَازِ - وَهُوَ خَلْفَ عَرَفَةَ - فَيُقِيمُونَ بِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: سُوقُ عُكَاظٍ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، كَذَا قَالَ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ السُّوقَ كَانَتْ تُقَامُ بِمَكَانٍ مِنْ عُكَاظٍ يُقَالُ لَهُ الِابْتِدَاءُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ حِيلَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا لَامٌ؛ أَيْ حُجِزَ وَمُنِعَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبَ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ شِهَابٍ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْحَيْلُولَةَ وَإِرْسَالَ الشُّهُبِ وَقَعَ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي تَضَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ تَغَايُرَ زَمَنِ الْقِصَّتَيْنِ، وَأَنَّ مَجِيءَ الْجِنِّ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ بِسَنَتَيْنِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا قَوْلُهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِنَّهُمْ رَأَوْهُ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَإِنَّهُ ﷺ كَانَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ يُصَلِّي قَطْعًا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ، لَكِنِ اخْتُلِفَ هَلِ افْتُرِضَ قَبْلَ الْخَمْسِ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْفَرْضَ أَوَّلًا كَانَ صَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ لَا لِكَوْنِهَا إِحْدَى الْخَمْسِ الْمُفْتَرَضَةِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَتَكُونُ قِصَّةُ الْجِنِّ مُتَقَدِّمَةً مِنْ أَوَّلِ الْمَبْعَثِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِمَّنْ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِهِمْ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ بِسِيَاقٍ سَالِمٍ مِنَ الْإِشْكَالِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْجِنُّ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ، فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا أَضْعَافًا، فَالْكَلِمَةُ تَكُونُ حَقًّا، وَأَمَّا مَا زَادُوا فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُطَوَّلًا، وَأَوَّلُهُ: كَانَ لِلْجِنِّ مَقَاعِدُ فِي السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ الْحَدِيثَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ فَدُحِرَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ السَّمَاءِ، وَرُمُوا بِالْكَوَاكِبِ، فَجَعَلَ لَا يَصْعَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا احْتَرَقَ، وَفَزِعَ أَهْلُ الْأَرْضَ لِمَا رَأَوْا مِنَ الْكَوَاكِبِ وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وكَانَ أَهْلُ الطَّائِفِ أَوَّلُ مَنْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ فَعَمَدُوا إِلَى أَمْوَالِهِمْ فَسَيَّبُوهَا وَإِلَى عَبِيدِهِمْ فَعَتَقُوهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَجُلٌ: وَيْلَكُمْ! لَا تُهْلِكُوا أَمْوَالَكُمْ، فَإِنَّ مَعَالِمَكُمْ مِنَ الْكَوَاكِبِ الَّتِي تَهْتَدُونَ بِهَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَأَقْلَعُوا. وَقَالَ إِبْلِيسُ: حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ، فَأَتَى مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِتُرْبَةٍ فَشَمَّهَا، فَقَالَ لِتُرْبَةِ تِهَامَةَ: هَاهُنَا حَدَثَ الْحَدَثُ، فَصَرَفَ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَهُمُ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute