السَّمَاءُ تُحْرَسُ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ حُرِسَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَرُجِمَتِ الشَّيَاطِينُ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّ السَّمَاءَ لَمْ تَكُنْ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ ظَاهِرٌ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدِ اتَّخَذَتْ مَقَاعِدَ يَسْمَعُونَ فِيهَا مَا يَحْدُثُ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ رُجِمُوا. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ الشُّهُبَ لَمْ تَكُنْ يُرْمَى بِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا﴾ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشُّهُبَ كَانَتْ تُرْمَى فَتُصِيبُ تَارَةً وَلَا تُصِيبُ أُخْرَى، وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ أَصَابَتْهُمْ إِصَابَةً مُسْتَمِرَّةً فَوَصَفُوهَا لِذَلِكَ بِالرَّصَدِ، لِأَنَّ الَّذِي يَرْصُدُ الشَّيْءَ لَا يُخْطِئُهُ، فَيَكُونُ الْمُتَجَدِّدُ دَوَامَ الْإِصَابَةِ لَا أَصْلَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ السُّهَيْلِيِّ: لَوْلَا أَنَّ الشِّهَابَ قَدْ يُخْطِئُ الشَّيْطَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّعَرُّضُ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِصَابَةِ لِرَجَاءِ اخْتِطَافِ الْكَلِمَةِ وَإِلْقَائِهَا قَبْلَ إِصَابَةِ الشِّهَابِ، ثُمَّ لَا يُبَالِي الْمُخْتَطِفُ بِالْإِصَابَةِ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُمَا - وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بِغَيْرِ سَنَدٍ - مِنْ طَرِيقِ لَهَبِ - بِفَتْحَتَيْنِ، وَيُقَالُ بِالتَّصْغِيرِ - ابْنِ مَالِكٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: ذَكَرْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ الْكَهَانَةَ فَقُلْتُ: نَحْنُ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَ حِرَاسَةَ السَّمَاءِ وَرَجْمَ الشَّيَاطِينِ وَمَنْعَهُمْ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ عِنْدَ قَذْفِ النُّجُومِ، وَذَلِكَ أَنَّا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ كَاهِنٍ لَنَا يُقَالُ لَهُ خُطْرُ بْنُ مَالِكٍ - وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَسِتَّةً وَثَمَانُونَ سَنَةً - فَقُلْنَا: يَا خُطْرُ، هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا، فَإِنَّا فَزِعْنَا مِنْهَا وَخِفْنَا سُوءَ عَاقِبَتِهَا؟ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَانْقَضَّ نَجْمٌ عَظِيمٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَصَرَخَ الْكَاهِنُ رَافِعًا صَوْتَهُ:
أَصَابَهُ أَصَابَهُ
خَامَرَهُ عَذَابَهُ
أَحْرَقَهُ شِهَابُهُ
الْأَبْيَاتِ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا:
قَدْ مُنِعَ السَّمْعَ عُتَاةُ الْجَانِ
بِثَاقِبٍ يُتْلِفُ ذِي سُلْطَانٍ
مِنْ أَجْلِ مَبْعُوثٍ عَظِيمِ الشَّانِ
وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ:
أَرَى لِقَوْمِي مَا أَرَى لِنَفْسِي … أَنْ يَتْبَعُوا خَيْرَ نَبِيِّ الْإِنْسِ
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: سَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَوْلَا فِيهِ حُكْمٌ لَمَا ذَكَرْتُهُ لِكَوْنِهِ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَالْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الرَّمْيُ بِهَا غُلِّظَ وَشُدِّدَ بِسَبَبِ نُزُولِ الْوَحْيِ، فَهَلَّا انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ بِمَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ نُشَاهِدُهَا الْآنَ يُرْمَى بِهَا؟ فَالْجَوَابُ يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، فَفِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَإِنَّهَا لَا تُرْمَى لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا أَخْبَرَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَيَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ بِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّغْلِيظِ وَالْحِفْظِ لَمْ يَنْقَطِعْ لِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تُلْقَى بِأَمْرِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مَعَ شِدَّةِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَنْقَطِعْ طَمَعُهُمْ فِي اسْتِرَاقِ السَّمْعِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَكَيْفَ بِمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ، لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ: إِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ فِيمَا تَسْتَرِقُ السَّمْعَ سَمِعَتْ بِأَنَّكَ سَتَمُوتُ فَأَلْقَتْ إِلَيْكَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ.
فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اسْتِرَاقَهُمُ السَّمْعَ اسْتَمَرَّ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَكَانُوا يَقْصِدُونَ اسْتِمَاعَ الشَّيْءِ مِمَّا يَحْدُثُ فَلَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا إِنِ اخْتَطَفَ أَحَدُهُمْ بِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ خَطْفَةً فَيَتْبَعُهُ الشِّهَابُ، فَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا لِأَصْحَابِهِ فَاتَتْ، وَإِلَّا سَمِعُوهَا وَتَدَاوَلُوهَا؛ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ السُّهَيْلِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute