لَهُ وِلايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ نِيَابَةً عَنِ الْإِمَامِ، إِمَّا عُمُومًا وَإِمَّا خُصُوصًا، وَعَلَى أَنَّ الرَّجُلَ اعْتَرَفَ بِشُرْبِهَا بِلَا عُذْرٍ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ رِيحِهَا. وَعَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ كَانَ بِإِنْكَارِ بَعْضِهِ جَاهِلًا، إِذْ لَوْ كَذَّبَ بِهِ حَقِيقَةً لَكَفَرَ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ حَرْفًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرَ اهـ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ جَيِّدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ أَيْ رَفَعَهُ إِلَى الْأَمِيرِ فَضَرَبَهُ فَأَسْنَدَ الضَّرْبَ إِلَى نَفْسِهِ مَجَازًا لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبًا فِيهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ، أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ قَامَ عَنِ الْإِمَامِ بِوَاجِبٍ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ وِلَايَتِهِ الْكُوفَةَ فَإِنَّهُ وَلِيَهَا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ انْتَهَى، وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي مُوَجَّهٌ، وَفِي الْأَخِيرِ غَفْلَةٌ عَمَّا فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحِمْصَ، وَلَمْ يَلِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِنَّمَا دَخَلَهَا غَازِيًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي عَنِ الرَّائِحَةِ فَيَرُدُّهُ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى وُجُوبَ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الرَّائِحَةِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ فِي قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِثْرَ هَذَا الْحَدِيثِ النَّقْلَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ جَلْدَهُ الرَّجُلَ بِالرَّائِحَةِ وَحْدَهَا إِذ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالرَّائِحَةِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَقَدْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ.
قُلْتُ: وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ شَهِيرَةٌ، وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ: إِذَا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ، وَلَمَّا حَكَى الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ اخْتَارَ أَنْ لَا يُحَدَّ بِالرَّائِحَةِ وَحْدَهَا بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ قَرِينَةٍ كَأَنْ يُوجَدَ سَكْرَانَ أَوْ يَتَقَيَّأَهَا، وَنَحْوُهُ أَنْ يُوجَدَ جَمَاعَةٌ شُهِرُوا بِالْفِسْقِ وَيُوجَدُ مَعَهُمْ خَمْرٌ وَيُوجَدُ مِنْ أَحَدِهِمْ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ مَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا بِإِدْمَانِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقِيلَ بِنَحْوِ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَنْ شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ هَلْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ أَوْ لَا فَإِنْ قَارَنَ ذَلِكَ وُجُودَ رَائِحَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الْحَدَثِ فَيَتَوَضَّأُ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ تَرْكِ الْوُضُوءِ مَعَ الشَّكِّ عَلَى مَا إِذَا تَجَرَّدَ الظَّنُّ عَنِ الْقَرِينَةِ، وَسَيَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ فَجَيِّدٌ أَيْضًا، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَرَى بِمُؤَاخَذَةِ السَّكْرَانِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي حَالِ سُكْرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ كَذَّبَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَلَمْ يُكَذِّبْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ إِنْزَالَهَا وَنَفَى الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي أَوْرَدَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ الرَّجُلُ ذَلِكَ إِمَّا جَهْلًا مِنْهُ أَوْ قِلَّةَ حِفْظٍ أَوْ عَدَمَ تَثَبُّتٍ بَعَثَهُ عَلَيْهِ السُّكْرُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَحْثٍ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الْرَّابِعُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ أَبُو الضُّحَى الْكُوفِيُّ، وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَفِي طَبَقَةِ مُسْلِمٍ هَذَا رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُسْلِمٌ أَحَدُهُمَا يُقَالُ لَهُ: الْأَعْوَرُ، وَالْآخَرُ يُقَالُ لَهُ: الْبُطَيْنُ، فَالْأَوَّلُ هُوَ مُسْلِمُ بْنُ كَيْسَانَ وَالثَّانِي: مُسْلِمُ بْنُ عِمْرَانَ، وَلَمْ أَرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَةً عَنْ مَسْرُوقٍ فَإِذَا أُطْلِقَ مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ عُرِفَ أَنَّهُ هُوَ أَبُو الضُّحَى، وَلَوِ اشْتَرَكُوا فِي أَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَى عَنِ الثَّلَاثَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ قُطْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَمَّا صُنِعَ بِالْمَصَاحِفِ مَا صُنِعَ: وَاللَّهِ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (فِيمَنْ أُنْزِلَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِيمَا أُنْزِلَتْ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ قُطْبَةَ، وَجَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُبَلِّغُنِيهِ وَهِيَ رِوَايَةُ جَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: (لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ) تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي بِلَفْظِ لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ وَلِأَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ نُبِّئْتُ