أَنَّهُ عَاشَ حَتَّى جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَتْ، وَقَوْلُهَا هُنَا لَوْ كَانَ حَيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَاتَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخًا لَهُمَا آخَرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ظَنَّتْ أَنَّهُ مَاتَ لِبُعْدِ عَهْدِهَا بِهِ ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: سُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ قَوْلِ عَائِشَةَ لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا أَيْنَ هُوَ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِيهِ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَالْأَوَّلُ ذَكَرَتْ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَالثَّانِي ذَكَرَتْ أَنَّهُ حَيٌّ؟ فَقَالَ: هُمَا عَمَّانِ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَحَدُهُمَا وُضِعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَتْ فِيهِ: لَوْ كَانَ حَيًّا، وَالْآخَرُ أَخُو أَبِيهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. قُلْتُ: الثَّانِي ظَاهِرٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَالْأَوَّلُ حَسَنٌ مُحْتَمِلٌ، وَقَدِ ارْتَضَاهُ عِيَاضٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ لِكَوْنِهِ جَزَمَ بِهِ.
قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ: أَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ امْرَأَةُ أَخِي الَّذِي اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى ظَنٍّ وَلَا هُوَ مُشْكِلٌ، إِنَّمَا الْمُشْكِلُ كَوْنُهَا سَأَلَتْ عَنِ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَوَقَّفَتْ فِي الثَّانِي، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ: هُمَا سُؤَالَانِ وَقَعَا مَرَّتَيْنِ فِي زَمَنَيْنِ عَنْ رَجُلَيْنِ، وَتَكَرَّرَ مِنْهَا ذَلِكَ؛ إِمَّا لِأَنَّهَا نَسِيَتِ الْقِصَّةَ الْأُولَى، وَإِمَّا لِأَنَّهَا جَوَّزَتْ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ فَأَعَادَتِ السُّؤَالَ. اهـ. وَتَمَامُهُ أَنْ يُقَالَ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ كَانَ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَالثَّانِي بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَلَا اسْتِبْعَادَ فِي تَجْوِيزِ مَا ذُكِرَ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ تَجْوِيزِ النَّسْخِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ عِيَاضٍ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْعَمَّيْنِ كَانَ أَعْلَى وَالْآخَرُ أَدْنَى، أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ شَقِيقًا وَالْآخَرُ لِأَبٍ فَقَطْ أَوْ لِأُمٍّ فَقَطْ، أَوْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَخِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْآخَرُ فِي حَيَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: حَدِيثُ عَمِّ حَفْصَةَ قَبْلَ حَدِيثِ عَمِّ عَائِشَةَ، وَهُمَا مُتَعَارِضَانِ فِي الظَّاهِرِ لَا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ عَمَّ حَفْصَةَ أَرْضَعَتْهُ الْمَرْأَةُ مَعَ عُمَرَ، فَالرَّضَاعَةُ فِيهِمَا مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَعَمَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْفَحْلِ، كَانَتِ امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ أَرْضَعَتْهَا فَجَاءَ أَخُوهُ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَأَبَتْ، فَأَخْبَرَهَا الشَّارِعُ أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ.
اهـ، فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَمُّ عَائِشَةَ الَّذِي سَأَلَتْ عَنْهُ فِي قِصَّةِ عَمِّ حَفْصَةَ كَانَ نَظِيرَ عَمِّ حَفْصَةَ فِي ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سَأَلْتُ ثَانِيًا فِي قِصَّةِ أَبِي الْقُعَيْسِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ وَجَدَهُ مَنْقُولًا فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ حَمْلٌ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ) أَيْ وَتُبِيحُ مَا تُبِيحُ، وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ، وَانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَأَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ وَتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَقَارِبِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ وَالْمُسَافَرَةِ وَلَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَاقِي أَحْكَامُ الْأُمُومَةِ مِنَ التَّوَارُثِ وَوُجُوبِ الْإِنْفَاقِ وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ وَالشَّهَادَةِ وَالْعَقْلِ وَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ وَفِي رِوَايَةٍ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ﷺ قَالَ اللَّفْظَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، قُلْتُ: الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْقِصَّةِ وَالسَّبَبِ وَالرَّاوِي، وَإِنَّمَا يَأْتِي مَا قَالَ إِذَا اتَّحَدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ مِنْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ أَوْ أَخٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَالْمُرْضِعَةِ وَزَوْجِهَا، يَعْنِي الَّذِي وَقَعَ الْإِرْضَاعُ بَيْنَ وَلَدِهِ مِنْهَا أَوِ السَّيِّدِ، فَتَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّهُ، وَأُمَّهَا لِأَنَّهَا جِدَّتُهُ فَصَاعِدًا، وَأُخْتَهَا لِأَنَّهَا خَالَتُهُ، وَبِنْتَهَا لِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَبِنْتَ بِنْتِهَا فَنَازِلًا؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ أُخْتِهِ، وَبِنْتَ صَاحِبِ اللَّبَنِ لِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَبِنْتَ بِنْتِهِ فَنَازِلًا لِأَنَّهَا بِنْتُ أُخْتِهِ، وَأُمَّهُ فَصَاعِدًا لِأَنَّهَا جِدَّتُهُ، وَأُخْتَهُ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ، وَلَا يَتَعَدَّى التَّحْرِيمُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ قَرَابَةِ الرَّضِيعِ، فَلَيْسَتْ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أُخْتًا لِأَخِيهِ وَلَا بِنْتًا لِأَبِيهِ إِذْ لَا رَضَاعَ بَيْنَهُمْ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ مَا يَنْفَصِلُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا وَهُوَ اللَّبَنُ، فَإِذَا اغْتَذَى بِهِ الرَّضِيعُ صَارَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِمَا فَانْتَشَرَ التَّحْرِيمُ بَيْنَهُمْ، بِخِلَافِ قَرَابَاتِ الرَّضِيعِ؛
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute