حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَوْ بِمَنْ عُلِمَ أَنَّ سَلَفَهُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ) أَيْ: أَعْرَضْتَ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَحَقِيقَةُ التَّوَلِّي إِنَّمَا هُوَ بِالْوَجْهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّيْءِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (الْأَرِيسِيِّينَ) هُوَ جَمْعُ أَرِيسِيٍّ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرِيسَ بِوَزْنِ فَعِيلٍ، وَقَدْ تُقْلَبُ هَمْزَتُهُ يَاءً كَمَا جَاءَتْ بِهِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا هُنَا، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْأَرِيسُ الْأَكَّارُ، أَيِ: الْفَلَّاحُ عِنْدَ ثَعْلَبٍ، وَعِنْدَ كُرَاعٍ: الْأَرِيسُ هُوَ الْأَمِيرُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ شَامِيَّةٌ، وَأَنْكَرَ ابْنُ فَارِسٍ أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ غَيْرُ ذَلِكَ لَكِنْ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ هُنَا، فَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ، زَادَ الْبَرْقَانِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: يَعْنِي الْحَرَّاثِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا فِي رِوَايَةِ الْمَدَائِنِيِّ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ: فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْفَلَّاحِينَ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا تَحُلْ بَيْنَ الْفَلَّاحِينَ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُرَادُ بِالْفَلَّاحِينَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَزْرَعُ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ فَلَّاحٌ، سَوَاءٌ كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ أَنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الضُّعَفَاءِ وَالْأَتْبَاعِ إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا تَقْلِيدًا لَهُ ; لِأَنَّ الْأَصَاغِرَ أَتْبَاعُ الْأَكَابِرِ.
قُلْتُ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ: فَإِنَّ عَلَيْكَ مَعَ إِثْمِكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ إِثْمُ الْأَتْبَاعِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ تَبِعُوهُ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فَلَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ إِثْمُ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَهَذَا يُعَدُّ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ لِأَنَّ وِزْرَ الْآثِمِ لَا يَتَحَمَّلُهُ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّ الْفَاعِلَ الْمُتَسَبِّبَ وَالْمُتَلَبِّسَ بِالسَّيِّئَاتِ يَتَحَمَّلُ مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ فِعْلِهِ وَجِهَةِ تَسَبُّبِهِ. وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُ الْأَرِيسِيِّينَ بِمَعْنًى آخَرَ، فَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يُونُسَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِهِ: الْأَرِيسِيُّونَ الْعَشَّارُونَ، يَعْنِي أَهْلَ الْمَكْسِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَهَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ، فَالْمَعْنَى الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِثْمِ، فَفِي الصَّحِيحِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَقُبِلَتْ.
قَوْلُهُ: (وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَخْ) هَكَذَا وَقَعَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي أَوَّلِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الْوَاوَ سَاقِطَةٌ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَعَلَى ثُبُوتِهَا فَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى قَوْلِهِ أَدْعُوكَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَقُولُ لَكَ وَلِأَتْبَاعِكَ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ أَبِي سُفْيَانَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ، فَاسْتَحْضَرَ مِنْهَا أَوَّلَ الْكِتَابِ فَذَكَرَهُ، وَكَذَا الْآيَةُ. وَكَأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: كَانَ فِيهِ كَذَا وَكَانَ فِيهِ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ فَالْوَاوُ مِنْ كَلَامِهِ لَا مِنْ نَفْسِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَوَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَهَا لَمَّا نَزَلَتْ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمْ سَنَةَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِصَّةُ سُفْيَانَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي الْمَغَازِي، وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَتْ سَابِقَةً فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَإِلَيْهِ يُومِئُ كَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ نُزُولَهَا مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
(فَائِدَةٌ): قِيلَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْجُنُبِ لِلْآيَةِ أَوِ الْآيَتَيْنِ، وَبِإِرْسَالِ بَعْضِ الْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَكَذَا بِالسَّفَرِ بِهِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ فَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بِالنَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ التَّارِيخِ بِذَلِكَ. وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ بِهِ أَيِ: الْمُصْحَفُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الْجُنُبُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ جَازَ، عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَظَرًا، فَإِنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، فَيُقَيَّدُ الْجَوَازُ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ احْتِيَاجٌ إِلَى ذَلِكَ كَالْإِبْلَاغِ وَالْإِنْذَارِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَمَّا الْجَوَازُ مُطْلَقًا حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ فَلَا يَتَّجِهُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ الْقَلِيلَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ عَلَى الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: أَسْلِمْ وَالتَّرْغِيبُ بِقَوْلِهِ: تَسْلَمْ وَيُؤْتِكَ وَالزَّجْرُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّيْتَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute