وَالْحُجَّةُ فِيهِ قِصَّةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا لَمْ تُخْبِرْهُ بِرِضَاهَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ لَمْ يُشِرْ عَلَيْهَا بِغَيْرِ مَنِ اخْتَارَتْ فَلَوْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهَا إِجَابَةٌ وَلَا رَدٌّ، فَقَطَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِالْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْقَوْلَيْنِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْبِكْرِ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهَا رِضًا بِالْخَاطِبِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ لَا تُمْنَعُ الْخِطْبَةِ إِلَّا عَلَى خِطْبَةِ مَنْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّرَاضِي عَلَى الصَّدَاقِ.
وَإِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ التَّحْرِيمِ، وَوَقَعَ الْعَقْدُ لِلثَّانِي فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَصِحُّ مَعَ ارْتِكَابِ التَّحْرِيمِ، وَقَالَ دَاوُدُ: يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ كَالْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُفْسَخُ قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْخِطْبَةُ، وَالْخِطْبَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِوُقُوعِهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إنَّ هَذَا النَّهْيُ مَنْسُوخٌ بِقِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، ثُمَّ رَدَّهُ وَغَلَّطَهُ بِأَنَّهَا جَاءَتْ مُسْتَشِيرَةً فَأُشِيرَ عَلَيْهَا بِمَا هُوَ الْأَوْلَى وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ دَعْوَى النَّسْخِ فِي مِثْلِ هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَشَارَ إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِالْأُخُوَّةِ، وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ، وَعِلَّةٌ مَطْلُوبَةٌ لِلدَّوَامِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَلْحَقَهَا النَّسْخُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْخَاطِبَ الْأَوَّلَ إِذَا أَذِنَ لِلْخَاطِبِ الثَّانِي فِي التَّزْوِيجِ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ، وَلَكِنْ هَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَأْذُونِ لَهُ أَوْ يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ؟ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِذْنِ الصَّادِرِ مِنَ الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ دَالٌّ عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنْ تَزْوِيجِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَبِإِعْرَاضِهِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا، الظَّاهِرُ الثَّانِي فَيَكُونُ الْجَوَازُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ بِالتَّنْصِيصِ وَلِغَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالْإِلْحَاقِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ أَوْ يَتْرُكَ.
وَصَرَّحَ الرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ مَحِلَّ التَّحْرِيمِ إِذَا كَانَتِ الْخِطْبَةُ مِنَ الْأَوَّلِ جَائِزَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً كَخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ لَمْ يَضُرَّ الثَّانِيَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ يَخْطُبَهَا وَهُوَ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِذَلِكَ حَقٌّ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَنَّ مَحِلَّ التَّحْرِيمِ إِذَا كَانَ الْخَاطِبُ مُسْلِمًا، فَلَوْ خَطَبَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَخْطُبَهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَوَافَقَهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ جُوَيْرِيَةَ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدِ مُسْلِمٍ: الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَتِهِ حَتَّى يَذَرَ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَطَعَ اللَّهُ الْأُخُوَّةُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ فَيَخْتَصُّ النَّهْيُ بِالْمُسْلِمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْأَصْلُ فِي هَذَا الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَرِدَ الْمَنْعُ، وَقَدْ وَرَدَ الْمَنْعُ مُقَيَّدًا بِالْمُسْلِمِ فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِلْحَاقِ الذِّمِّيِّ بِالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِأَخِيهِ خُرِّجَ عَلَى الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ﴾ وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَاحْتِرَامِهِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ فَالرَّاجِحُ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَعَلَى الثَّانِي فَالرَّاجِحُ مَا قَالَ غَيْرُهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبِنَاءِ اخْتِلَافُهُمْ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْكَافِرِ فَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ أَثْبَتَهَا لَهُ، وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَالِكِ مَنَعَ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ أَنَّ الْخَاطِبَ الْأَوَّلَ إِذَا كَانَ فَاسِقًا جَازَ لِلْعَفِيفِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْهُمْ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَخْطُوبَةُ عَفِيفَةً فَيَكُونُ الْفَاسِقُ غَيْرَ كُفْءٍ لَهَا، فَتَكُونُ خِطْبَتُهُ كَلَا خِطْبَةٍ.
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهَا عَلَامَةُ الْقَبُولِ، وَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا مَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ أَهْلًا فِي الْعَادَةِ لَخِطْبَةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، كَمَا لَوْ خَطَبَ سُوقِيٌّ بِنْتَ مَلِكٍ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى التَّكَافُؤِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ خِطْبَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى خِطْبَةِ امْرَأَةٍ أُخْرَى؛ إِلْحَاقًا لِحُكْمِ النِّسَاءِ بِحُكْمِ الرِّجَالِ، وَصُورَتُهُ أَنْ تَرْغَبَ امْرَأَةٌ فِي رَجُلٍ وَتَدْعُوهُ إِلَى تَزْوِيجِهَا فَيُجِيبُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَتَجِيءُ امْرَأَةٌ أُخْرَى فَتَدْعُوهُ، وَتُرَغِّبُهُ فِي نَفْسِهَا وَتُزَهِّدُهُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute