فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَيُمْكِنُ رَدُّ رِوَايَةِ سُفْيَانَ إِلَيْهَا بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَامَتْ وَقَفَتْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى أَنْ وَقَفَتْ عِنْدَهُمْ، لَا أَنَّهَا كَانَتْ جَالِسَةً فِي الْمَجْلِسِ فَقَامَتْ. وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَفَادَ تَعْيِينَ الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْقِصَّةُ.
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَوَقَعَ فِي الْأَحْكَامِ لِابْنِ الْقَصَّاعِ أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ أَوْ أُمُّ شَرِيكٍ، وَهَذَا نَقْلٌ مِنِ اسْمِ الْوَاهِبَةِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اسْمِهَا فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ وَمَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاهِبَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ) كَذَا فِيهِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ تَقُولَ: إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَكَذَا الثَّوْرِيُّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي لَكَ، وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: أَمْرُ نَفْسِي أَوْ نَحْوُهُ، وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُرَادَةٍ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْحُرِّ لَا تُمْلَكُ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: أَتَزَوَّجُكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.
قَوْلُهُ: (فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِرَاءٍ وَاحِدَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا فَاءُ التَّعْقِيبِ، وَهِيَ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الرَّأْيِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَكُلٌّ صَوَابٌ، وَوَقَعَ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَزَائِدَةَ: فَصَمَتَ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ حَازِمٍ، وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنْ صَعَّدَ وَالْوَاوُ مِنْ صَوَّبَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ نَظَرَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، وَالتَّشْدِيدُ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأَمُّلِ وَإِمَّا لِلتَّكْرِيرِ، وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ قَالَ: أَيْ نَظَرَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا مِرَارًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: فَخَفَّضَ فِيهَا الْبَصَرَ وَرَفَّعَهُ وَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ النَّظَرُ بَدَلَ الْبَصَرِ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: فَصَمَتَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: فَلَمْ يَرُدَّهَا، وَقَدْ قَدَّمْتُ ضَبْطَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي بَابِ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَسِيَاقُ لَفْظِهَا كَالْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمَا أَيْضًا: ثُمَّ قَامَتِ الثَّالِثَةُ وَسِيَاقُهَا كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ مَعًا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَصَمَتَ، ثُمَّ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَصَمَتَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا قَائِمَةً مَلِيًّا تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ صَامِتٌ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَقَامَتْ طَوِيلًا، وَمِثْلُهُ لِلثَّوْرِيِّ عَنْهُ وَهُوَ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قِيَامًا طُويلًا، أَوْ لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ زَمَانًا طَوِيلًا، وَفِي رِوَايَةِ مُبَشِّرٍ: فَقَامَتْ حَتَّى رَئيْنَا لَهَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ: فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا: وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَقَالَ: مَا لِي فِي النِّسَاءِ حَاجَةٌ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَالِ، فَكَأَنَّهُ صَمَتَ أَوَّلًا لِتَفْهَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا، فَلَمَّا أَعَادَتِ الطَّلَبَ أَفْصَحَ لَهَا بِالْوَاقِعِ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: اجْلِسِي، فَجَلَسَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ، فَقَالَ: اجْلِسِي بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، أَمَّا نَحْنُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيكِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وُفُورُ أَدَبِ الْمَرْأَةِ مَعَ شِدَّةِ رَغْبَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُبَالِغْ فِي الْإِلْحَاحِ فِي الطَّلَبِ، وَفَهِمَتْ مِنَ السُّكُوتِ عَدَمَ الرَّغْبَةِ، لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَيْأَسْ مِنَ الرَّدِّ جَلَسَتْ تَنْتَظِرُ الْفَرَجَ، وَسُكُوتُهُ ﷺ إِمَّا حَيَاءً مِنْ مُوَاجَهَتِهَا بِالرَّدِّ، وَكَانَ ﷺ شَدِيدَ الْحَيَاءِ جِدًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute