للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَالتَّعْلِيمُ قَدْ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ وَقْتِهِ، فَقَدْ يَتَعَلَّمُ فِي زَمَانٍ يَسِيرٍ وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ دَارَهُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ التَّعْلِيمُ لَا تُمْلَكُ بِهِ الْأَعْيَانُ لَا تُمْلَكُ بِهِ الْمَنَافِعُ.

وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمَشْرُوطَ تَعْلِيمُهُ مُعَيَّنٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِالْجَهْلِ بِمُدَّةِ التَّعْلِيمِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: اغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي بَابِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ عِشْرَتِهِمَا، وَلِأَنَّ مِقْدَارَ تَعْلِيمِ عِشْرِينَ آيَةً لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَفْهَامُ النِّسَاءِ غَالِبًا، خُصُوصًا مَعَ كَوْنِهَا عَرَبِيَّةً مِنْ أَهْلِ لِسَانِ الَّذِي يَتَزَوَّجُهَا كَمَا تَقَدَّمَ.

وَانْفَصَلَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ زَوَّجَهَا إِيَّاهُ لِأَجْلِ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي حَفِظَهُ وَسَكَتَ عَنِ الْمَهْرِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لَهَا فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أَيْسَرَ كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: فَإِذَا رَزَقَكَ اللَّهُ فَعَوِّضْهَا كَانَ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِهَذَا الْقَوْلِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ زَوَّجَهُ لِأَجْلِ مَا حَفِظَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَصْدَقَ عَنْهُ، كَمَا كَفَّرَ عَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيضِ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَنْوِيهًا بِفَضْلِ أَهْلِهِ، قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّعْلِيمَ صَدَاقًا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَعْرِفَةُ الزَّوْجِ بِفَهْمِ الْمَرْأَةِ، وَهَلْ فِيهَا قَابِلِيَّةُ التَّعْلِيمِ بِسُرْعَةٍ أَوْ بِبُطْءٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَغْرَاضُ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الطَّحَاوِيِّ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ ﷺ أَوَّلًا: هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا، وَلَوْ قَصَدَ اسْتِكْشَافَ فَضْلِهِ لَسَأَلَهُ عَنْ نَسَبِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ جَعْلَ تَعْلِيمَهَا الْقُرْآنَ مَهْرًا وَقَدْ لَا تَتَعَلَّمُ؟ أُجِيبُ: كَمَا يَصِحُّ جَعْلُ تَعْلِيمِهَا الْكِتَابَةَ مَهْرًا وَقَدْ لَا تَتَعَلَّمُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ جَعْلَ الْمَنْفَعَةِ مَهْرًا هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ حِذْقَ الْمُتَعَلِّمِ أَوْ لَا كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَفِيهِ جَوَازُ كَوْنِ الْإِجَارَةِ صَدَاقًا وَلَوْ كَانَتِ الْمَصْدُوقَةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ، فَتَقُومُ الْمَنْفَعَةُ مِنَ الْإِجَارَةِ مَقَامَ الصَّدَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ خِلَافٌ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْحُرِّ وَأَجَازُوهُ فِي الْعَبْدِ إِلَّا فِي الْإِجَارَةِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَمَنَعُوهُ مُطْلَقًا؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا الْحَنَفِيَّةَ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: زَوَّجَهُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ إِجَارَةً، وَهَذَا كَرِهَهُ مَالِكٌ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ بِالتَّعْلِيمِ. وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ مُضَرَ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ ذَلِكَ أُجْرَةٌ عَلَى تَعْلِيمِهَا، وَبَذْلِكَ جَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَبِالْوَجْهَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: وَإِذَا جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ الْعِوَضُ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا، وَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يُجِيزَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ عَلِّمْهَا نَصٌّ فِي الْأَمْرِ بِالتَّعْلِيمِ، وَالسِّيَاقُ يَشْهَدُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ النِّكَاحِ فَلَا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ إِكْرَامًا لِلرَّجُلِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ يُصَرِّحُ بِخِلَافِهِ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى اللَّامِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لُغَةً وَلَا مَسَاقًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: زَوِّجْنِي فُلَانَةً فَقَالَ: زَوَّجْتُكَهَا بِكَذَا كَفَى ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِ الزَّوْجِ قَبِلْتُ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ مِنْ جِهَةِ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الِاسْتِيجَابِ وَالْإِيجَابِ وَفِرَاقِ الرَّجُلِ الْمَجْلِسِ لِالْتِمَاسِ مَا يَصْدُقُهَا إِيَّاهُ، وَأَجَابَ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّ بِسَاطَ الْقِصَّةِ أَغْنَى عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَا كُلُّ رَاغِبٍ فِي التَّزْوِيجِ إِذَا اسْتَوْجَبَ، فَأُجِيبَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَسَكَتَ كَفَى إِذَا ظَهَرَ قَرِينَةُ الْقَبُولِ، وَإِلَّا فَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ رِضَاهُ بِالْقَدْرِ الْمَذْكُورِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ ثُبُوتِ الْعَقْدِ بِدُونِ لَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَخَالَفَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُهُ بِكُلِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ إِذَا قُرِنَ بِذِكْرِ الصَّدَاقِ أَوْ قَصْدِ النِّكَاحِ كَالتَّمْلِيكِ