عَلَى تَحْصِيلِ مَا يُمْهِرُهَا بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ﷺ أَشَارَ بِالْأَوْلَى، وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ثُبُوتُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمُفَوِّضَةِ وَثُبُوتُ جَوَازِ النِّكَاحِ عَلَى مُسَمًّى فِي الذِّمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهِ أَنَّ إِصْدَاقَ مَا يُتَمَوَّلُ يُخْرِجُهُ عَنْ يَدِ مَالِكِهِ حَتَّى إنَّ مَنْ أَصْدَقَ جَارِيَةً مَثَلًا حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَكَذَا اسْتِخْدَامُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَنْ أَصْدَقَهَا، وَأَنَّ صِحَّةَ الْمَبِيعِ تَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ مَا تَعَذَّرَ إِمَّا حِسًّا كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا شَرْعًا كَالْمَرْهُونِ، وَكَذَا الَّذِي لَوْ زَالَ إِزَارُهُ لَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، كَذَا قَالَ عِيَاضٌ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْمَنْفَعَةِ صَدَاقًا وَلَوْ كَانَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْوِيضِ كَقَوْلِكَ: بِعْتُكَ ثَوْبِي بِدِينَارٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِلَّا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى اللَّامِ عَلَى مَعْنَى تَكْرِيمِهِ؛ لِكَوْنِهِ حَامِلًا لِلْقُرْآنِ لَصَارَتِ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى الْمَوْهُوبَةِ وَالْمَوْهُوبَةُ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيِّ ﷺ اهـ.
وَانْفَصَلَ الْأَبْهَرِيُّ - وَقَبِلَهُ الطَّحَاوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ - عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، لِكَوْنِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْوَاهِبَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنْكِحَهَا لِمَنْ شَاءَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَنَحْوُهُ لِلدَّاوُدِيِّ وَقَالَ: إِنْكَاحُهَا إِيَّاهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوَّاهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ مَلَّكْتُكَهَا لَمْ يُشَاوِرْهَا وَلَا اسْتَأْذَنَهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهَا هيَ أَوَّلًا فَوَّضَتْ أَمْرَهَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ: فَرَ فِيَّ رَأْيَكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْخَبَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُرَاجَعَتِهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَهْرِ وَصَارَتْ كَمَنْ قَالَتْ لِوَلِيِّهَا زَوِّجْنِي بِمَا تَرَى مِنْ قَلِيلِ الصَّدَاقِ وَكَثِيرِهِ، وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي النُّعْمَانِ الْأَزْدِيِّ قَالَ: زَوَّجَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ امْرَأَةً عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ: لَا تَكُونُ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ مَهْرًا، وَهَذَا مَعَ إِرْسَالِهِ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ قَالَ: لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوُهُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا أَنْ يُعَلِّمَهَا مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنْهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ صَدَاقَهَا، وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ مَالِكٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ: فَعَلَّمَهَا مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَيَّنَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِقْدَارَ مَا يُعَلِّمُهَا وَهُوَ عِشْرُونَ آيَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ لِأَجَلِ مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَكْرَمَهُ بِأَنْ زَوَّجَهُ الْمَرْأَةَ بِلَا مَهْرٍ لِأَجْلِ كَوْنِهِ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِبَعْضِهِ، وَنَظِيرُهُ قِصَّةُ أَبِي طَلْحَةَ مَعَ أُمِّ سَلِيمٍ وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ مَعَ أُمِّ سَلِيمٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي وَلَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَأَسْلَمَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سَلِيمٍ فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَكَانَ ذَلِكَ صَدَاقَ مَا بَيْنَهُمَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ التَّزْوِيجُ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَى حَدِيثِ سَهْلٍ التَّزْوِيجُ عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُ مَالَ إِلَى تَرْجِيحِ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي.
وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْوِيضِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَأَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا فُلَانُ، هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ الْحَدِيثَ. وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ لِلْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنَّ النِّكَاحَ إِذَا وَقَعَ عَلَى مَجْهُولٍ كَانَ كَمَا لَمْ يُسَمِّ فَيَحْتَاجُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْلُومِ، قَالَ: وَالْأَصْلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ مُعَيِّنٍ كَغَسْلِ الثَّوْبِ أَوْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute