عِيَاضٌ، وَاسْتَنْكَرَهُ ابْنُ الْبَيْطَارِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمُفْرَدَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ حَشِيشَةٌ دَقِيقَةٌ طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ وَلَيْسَتْ بِبِلَادِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانُوا ذَكَرُوهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا بِأَبِي أَنْتَ وَفُوكَ الْأَشْنَبُ … كَأَنَّمَا ذُرَّ عَلَيْهِ الزَّرْنَبُ وَقِيلَ: هُوَ الزَّعْفَرَانُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَاللَّامُ فِي الْمَسِّ وَالرِّيحِ نَائِبَةٌ عَنِ الضَّمِيرِ أَيْ مَسُّهُ وَرِيحُهُ. أَوْ فِيهِمَا حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ الرِّيحُ مِنْهُ وَالْمَسُّ مِنْهُ، كَقَوْلِهِمْ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ. وَصَفَتْهُ بِأَنَّهُ لَيِّنُ الْجَسَدِ نَاعِمُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ حُسْنِ خُلُقِهِ وَلِينِ عَرِيكَتِهِ بِأَنَّهُ طَيَّبُ الْعَرَقِ لِكَثْرَةِ نَظَافَتِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ الطِّيبَ تَظَرُّفًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ طِيبِ حَدِيثِهِ أَوْ طِيبِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِجَمِيلِ مُعَاشَرَتِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَأَنَا أَغْلِبُهُ وَالنَّاسَ يَغْلِبُ فَوَصَفَتْهُ مَعَ جَمِيلِ عِشْرَتِهِ لَهَا وَصَبْرِهِ عَلَيْهَا بِالشَّجَاعَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَغْلِبْنَ الْكِرَامَ وَيَغْلِبُهُنَّ اللِّئَامُ، قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ بِغَيْرِ أَدَاةٍ، وَفِيهِ حُسْنُ الْمُنَاسَبَةِ وَالْمُوَازِنَةِ وَالتَّسْجِيعِ. وَأَمَّا قَوْلُهَا: وَالنَّاسَ يَغْلِبُ؛ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّتْمِيمَ، لِأَنَّهَا لَوِ اقْتَصَرَتْ عَلَى قَوْلِهَا: وَأَنَا أَغْلِبُهُ لَظُنَّ أَنَّهُ جَبَانٌ ضَعِيفٌ، فَلَمَّا قَالَتْ: وَالنَّاسَ يَغْلِبُ دَلَّ عَلَى أَنَّ غَلْبَهَا إِيَّاهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَرَمِ سَجَايَاهُ؛ فَتَمَّمَتْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمبَالِغَةِ فِي حُسْنِ أَوْصَافِهِ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ) زَادَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي رِوَايَتِهِ: لَا يَشْبَعُ لَيْلَةً يُضَافُ وَلَا يَنَامُ لَيْلَةً يَخَافُ، وَصَفَتْهُ بِطُولِ الْبَيْتِ وَعُلُوِّهِ فَإِنَّ بُيُوتَ الْأَشْرَافِ كَذَلِكَ يُعْلُونَهَا وَيَضْرِبُونَهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيَقْصِدَهُمُ الطَّارِقُونَ وَالْوَافِدُونَ، فَطُولُ بُيُوتِهِمْ إِمَّا لِزِيَادَةِ شَرَفِهِمْ أَوْ لِطُولِ قَامَاتِهِمْ، وَبُيُوتُ غَيْرِهِمْ قِصَارٌ، وَقَدْ لَهِجَ الشُّعَرَاءُ بِمَدْحِ الْأَوَّلِ وَذَمِّ الثَّانِي كَقَوْلِهِ:
قِصَارُ الْبُيُوتِ لَا تَرَى صِهْوَاتِهَا،
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ أَكَبُّوا … عَلَى الرُّكْبَاتِ مِنْ قِصَرِ الْعِمَادِ
وَمِنْ لَازِمِ طُولِ الْبَيْتِ أَنْ يَكُونَ مُتَّسِعًا فَيَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْحَاشِيَةِ وَالْغَاشِيَةِ، وَقِيلَ: كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ شَرَفِهِ وَرِفْعَةِ قَدْرِهِ. وَالنِّجَادُ بِكَسْرٍ النُّونِ وَجِيمٍ خَفِيفَةٍ حَمَّالَةُ السَّيْفِ، تُرِيدُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ يَحْتَاجُ إِلَى طُولِ نِجَادِهِ، وَفِي ضِمْنِ كَلَامِهَا أَنَّهُ صَاحِبُ سَيْفٍ فَأَشَارَتْ إِلَى شَجَاعَتِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِالطُّولِ وَتَذُمُّ بِالْقِصَرِ. وَقَوْلُهَا عَظِيمُ الرَّمَادِ تَعْنِي أَنَّ نَارَ قِرَاهُ لِلْأَضْيَافِ لَا تُطْفَأُ لِتَهْتَدِيَ الضِّيفَانُ إِلَيْهَا فَيَصِيرُ رَمَادُ النَّارِ كَثِيرًا لِذَلِكَ، وَقَوْلُهَا قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادْ وَقَفَتْ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ لِمُؤَاخَاةِ السَّجْعِ، وَالنَّادِي وَالنَّدِّيُّ مَجْلِسُ الْقَوْمِ، وَصَفَتْهُ بِالشَّرَفِ فِي قَوْمِهِ، فَهُمْ إِذَا تَفَاوَضُوا وَاشْتَوَرُوا فِي أَمْرٍ أَتَوْا فَجَلَسُوا قَرِيبًا مِنْ بَيْتِهِ فَاعْتَمَدُوا عَلَى رَأْيِهِ وَامْتَثَلُوا أَمْرَهُ، أَوْ أَنَّهُ وَضَعَ بَيْتَهُ فِي وَسَطِ النَّاسِ لِيَسْهُلَ لِقَاؤُهُ، وَيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْوَارِدِ وَطَالِبِ الْقِرَى، قَالَ زُهَيْرٌ:
بَسَطَ الْبُيُوتَ لِكَيْ يَكُونَ مَظِنَّةً … مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ جَفْنَةُ الْمُسْتَرْفدِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ أَنْ أَهْلَّ النَّادِي إِذَا أَتَوْهُ لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِمْ لِقَاؤُهُ لِكَوْنِهِ لَا يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ وَلَا يَتَبَاعَدُ مِنْهُمْ بَلْ يَقْرُبُ وَيَتَلَقَّاهُمْ وَيُبَادِرُ لِإِكْرَامِهِمْ، وَضِدُّهُ مَنْ يَتَوَارَى بِأَطْرَافِ الْحُلَلِ وَأَغْوَارِ الْمَنَازِلِ، وَيَبْعُدُ عَنْ سَمْتِ الضَّيْفِ لِئَلَّا يَهْتَدُوا إِلَى مَكَانِهِ، فَإِذَا اسْتَبْعَدُوا مَوْضِعَهُ صَدُّوا عَنْهُ وَمَالُوا إِلَى غَيْرِهِ. وَمُحَصِّلُ كَلَامِهَا أَنَّهَا وَصَفَتْهُ بِالسِّيَادَةِ وَالْكَرَمِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَطِيبِ الْمُعَاشَرَةِ. قَوْلُهُ (قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ؟، مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، لَهُ إِبِلٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute