سَعِيدٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَسْأَلُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: زَعَمَ أَبُو سَعِيدٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ: فَسَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ عَنْهُ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي فِي النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذِهِ طُرُقٌ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَجُمِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ جُذَامَةَ بِحَمْلِ حَدِيثِ جُذَامَةَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَيْهَقِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَ حَدِيثَ جُذَامَةَ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ طُرُقًا مِنْهُ، وَكَيْفَ يُصَرِّحُ بِتَكْذِيبِ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يُثْبِتُهُ؟ وَهَذَا دَفْعٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالتَّوَهُّمِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَرُدَّ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ جُذَامَةَ عَلَى وَفْقِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَوَّلًا مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ ﷺ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنْزَّلْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِالْحُكْمِ فَكَذَّبَ الْيَهُودَ فِيمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ رُشْدٍ ثُمَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِشَيْءٍ تَبَعًا لِلْيَهُودِ ثُمَّ يُصَرِّحُ بِتَكْذِيبِهِمْ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ جُذَامَةَ بِثُبُوتِهِ فِي الصَّحِيحِ، وَضَعَّفَ مُقَابِلَهُ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ فَاضْطَرَبَ، وَرُدَّ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا يَقْدَحُ حَيْثُ لَا يَقْوَى بَعْضُ الْوُجُوهِ فَمَتَى قَوِيَ بَعْضُهَا عُمِلَ بِهِ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ.
وَرَجَّحَ ابْنُ حَزْمٍ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ جُذَامَةَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ غَيْرِهَا تُوَافِقُ أَصْلَ الْإِبَاحَةِ وَحَدِيثُهَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ قَالَ: فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ أُبِيحَ بَعْدَ أَنْ مُنِعَ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَدِيثَهَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْمَنْعِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ وَأْدًا خَفِيًّا عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْعَزْلِ عَنِ الْحَامِلِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَحْذَرُهُ الَّذِي يَعْزِلُ مِنْ حُصُولِ الْحَمْلِ، لَكِنْ فِيهِ تَضْيِيعُ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْمَنِيَّ يَغْذُوهُ فَقَدْ يُؤَدِّي الْعَزْلُ إِلَى مَوْتِهِ أَوْ إِلَى ضَعْفِهِ الْمُفْضِي إِلَى مَوْتِهِ فَيَكُونُ وَأْدًا خَفِيًّا، وَجَمَعُوا أَيْضًا بَيْنَ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمُ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى وَبَيْنَ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ وَأْدًا خَفِيًّا فِي حَدِيثِ جُذَامَةَ بِأَنَّ قَوْلَهُمُ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى يَقْتَضِي أَنَّهُ وَأْدٌ ظَاهِرٌ، لَكِنَّهُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَفْنِ الْمَوْلُودِ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيًّا، فَلَا يُعَارِضُ قَوْلُهُ إِنَّ الْعَزْلَ وَأْدٌ خَفِيٌّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ أَصْلًا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَأْدًا مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي قَطْعِ الْوِلَادَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: الْوَأْدُ الْخَفِيُّ وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّهُ قَطَعَ طَرِيقَ الْوِلَادَةِ قَبْلَ مَجِيئِهِ فَأَشْبَهَ قَتْلَ الْوَلَدِ بَعْدَ مَجِيئِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الَّذِي كَذَبَتْ فِيهِ الْيَهُودُ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْعَزْلَ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحَمْلُ أَصْلًا وَجَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ قَطْعِ النَّسْلِ بِالْوَأْدِ، فَأَكْذَبَهَمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحَمْلَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ خَلْقَهُ، وَإِذَا لَمْ يُرِدْ خَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ وَأْدًا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وَأْدًا خَفِيًّا فِي حَدِيثِ جُذَامَةَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَعْزِلُ هَرَبًا مِنَ الْحَمْلِ فَأَجْرَى قَصْدَهُ لِذَلِكَ مَجْرَى الْوَأْدِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَأْدَ ظَاهِرٌ بِالْمُبَاشَرَةِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَصْدُ وَالْفِعْلُ، وَالْعَزْلُ يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ صِرْفًا فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَفِيًّا، فَهَذِهِ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ يَقِفُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ جُذَامَةَ عَلَى الْمَنْعِ. وَقَدْ جَنَحَ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ فِي صَحِيحِهِ: ذِكْرُ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مَزْجُورٌ عَنْهُ لَا يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ: ضَعْهُ فِي حَلَالِهِ وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ وَأَقْرِرْهُ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحْيَاهُ وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ وَلَكَ أَجْرٌ اهـ. وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا سَاقَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّحْرِيمِ، بَلْ هُوَ أَمْرُ إِرْشَادٍ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَخْبَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَجْهٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْعَزْلُ وَأْدًا، وَقَالَ: الْمَنِيُّ يَكُونُ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عَظْمًا ثُمَّ يُكْسَى لَحْمًا، قَالَ: وَالْعَزْلُ قَبْلَ ذَلِكَ كُلَّهُ.
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute