للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

السَّبَبِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاسْتَوْعَبْتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ وَهَذَا أَصَحُّ طُرُقِ هَذَا السَّبَبِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ التَّابِعِيِّ الشَّهِيرِ قَالَ أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ وَلَدِهِ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي، فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُحَرِّمُ عَلَيْكَ الْحَلَالَ! فَحَلَفَ لَهَا بِاللَّهِ لَا يُصِيبُهَا، فَنَزَلَتْ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَغْوٌ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ حَلَفَ.

وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالنَّفْيِ التَّطْلِيقَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْضِعُهَا فِي الْحَرَامِ يُكَفِّرُ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ الصُّورِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّمَا هيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا فَعُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَيْ لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامًا، قَالَ: كَذَبْتَ مَا هيَ بِحَرَامٍ، ثُمَّ تَلَا ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ثُمَّ قَالَ لَهُ عَلَيْكَ رَقَبَةٌ اهـ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ مُوسِرٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْأَغْلَظِ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَا أَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ عِتْقُ الرَّقَبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ شُرْبِ النَّبِيِّ الْعَسَلَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَفِيهِ أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، فَهَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ سَوْدَةَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ هُمَا اللَّتَانِ تَوَاطَأَتَا عَلَى وَفْقِ مَا فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صَاحِبَةِ الْعَسَلِ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْحَمْلُ عَلَى التَّعَدُّدِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُ السَّبَبِ لِلْأَمْرِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ جُنِحَ إِلَى التَّرْجِيحِ فَرِوَايَةُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَثْبَتُ لِمُوَافَقَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهَا عَلَى أَنَّ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الطَّلَاقِ مِنْ جَزْمِ عُمَرَ بِذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ حَفْصَةُ صَاحِبَةَ الْعَسَلِ لَمْ تُقْرَنْ فِي التَّظَاهُرِ بِعَائِشَةَ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ فِي شُرْبِ الْعَسَلِ وَتَحْرِيمِهِ وَاخْتِصَاصُ النُّزُولِ بِالْقِصَّةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ هُمَا الْمُتَظَاهِرَتَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا شُرْبُ الْعَسَلِ عِنْدَ حَفْصَةَ كَانَتْ سَابِقَةً.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الَّتِي فِيهَا أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ حَفْصَةَ تَعَرُّضٌ لِلْآيَةِ وَلَا لِذِكْرِ سَبَبِ النُّزُولِ، وَالرَّاجِحُ أَيْضًا أَنَّ صَاحِبَةَ الْعَسَلِ زَيْنَبُ لَا سَوْدَةُ لِأَنَّ طَرِيقَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَثْبَتُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بِكَثِيرٍ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تَتَّحِدَ بِطَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ سَوْدَةَ كَانَتْ مِمَّنْ وَافَقَ عَائِشَةَ عَلَى قَوْلِهَا أَجِدُ رِيحَ مَغَافِيرَ وَيُرَجِّحُهُ أَيْضًا مَا مَضَى فِي كِتَابِ الْهِبَةِ عَنْ عَائِشَةَ إنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ كُنَّ حِزْبَيْنِ: أَنَا وَسَوْدَةُ، وَحَفْصَةُ، وَصَفِيَّةُ فِي حِزْبٍ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ وَالْبَاقِيَاتُ فِي حِزْبٍ فَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ زَيْنَبَ هِيَ صَاحِبَةُ الْعَسَلِ وَلِهَذَا غَارَتْ عَائِشَةُ مِنْهَا لِكَوْنِهَا مِنْ غَيْرِ حِزْبِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَزْمِ الدَّاوُدِيِّ بِأَنَّ تَسْمِيَةَ الَّتِي شَرِبَتِ الْعَسَلَ حَفْصَةُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ أَوْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَمِمَّنْ جَنَحَ إِلَى التَّرْجِيحِ عِيَاضٌ،