وَلَفْظُهُ فِي الزَّكَاةِ أَعْطَى رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فَسَاقَهُ بِلَا تَجْرِيدٍ وَلَا الْتِفَاتٍ، وَزَادَ فِيهِ فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَارَرْتُهُ.
وَغَفَلَ بَعْضُهُمْ فَعَزَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَطْ، وَالرَّجُلُ الْمَتْرُوكُ اسْمُهُ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيُّ، سَمَّاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (مَالَكٌ عَنْ فُلَانٍ) يَعْنِي أَيُّ سَبَبٍ لِعُدُولِكَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ؟ وَلَفْظُ فُلَانٍ كِنَايَةٌ عَنِ اسْمٍ أُبْهِمَ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ) فِيهِ الْقَسَمُ فِي الْإِخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.
قَوْلُهُ: (لَأُرَاهُ) وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ هُنَا وَفِي الزَّكَاةِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ ﵀: بَلْ هُوَ بِفَتْحِهَا أَيْ أَعْلَمُهُ، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّهَا فَيَصِيرُ بِمَعْنَى أَظُنُّهُ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، اهـ. وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى تَعَيُّنِ الْفَتْحِ لِجَوَازِ إِطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعِلْمِ أَنْ لَا تَكُونَ مُقَدِّمَاتُهُ ظَنِّيَّةً فَيَكُونَ نَظَرِيًّا لَا يَقِينِيًّا وَهُوَ الْمُمْكِنُ هُنَا، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ جَوَازَ الْحَلِفِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا نَهَاهُ عَنِ الْحَلِفِ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى ; لِأَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى وِجْدَانِ الظَّنِّ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُقْسِمْ عَلَى الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ كَمَا ظُنَّ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا) هُوَ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ لَا بِفَتْحِهَا، فَقِيلَ هِيَ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لِلتَّشْرِيكِ، وَأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُمَا مَعًا لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَيَرُدُّ هَذَا رِوَايَةَ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فِي مُعْجَمِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَا تَقُلْ مُؤْمِنٌ بَلْ مُسْلِمٌ فَوَضَحَ أَنَّهَا لِلْإِضْرَابِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُسْلِمِ عَلَى مَنْ لَمْ يُخْتَبَرْ حَالُهُ الْخِبْرَةَ الْبَاطِنَةَ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ الْمُؤْمِنِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَعْلُومٌ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، قَالَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ مُلَخَّصًا. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحَدِيثُ دَالًّا عَلَى مَا عُقِدَ لَهُ الْبَابُ، وَلَا يَكُونَ لِرَدِّ الرَّسُولِ ﷺ عَلَى سَعْدٍ فَائِدَةٌ. وَهُوَ تَعَقُّبٌ مَرْدُودٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالتَّرْجَمَةِ قَبْلُ، وَمُحَصَّلُ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُوسِعُ الْعَطَاءَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ تَأَلُّفًا، فَلَمَّا أَعْطَى الرَّهْطَ وَهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَتَرَكَ جُعَيْلًا وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ سَأَلُوهُ، خَاطَبَهُ سَعْدٌ فِي أَمْرِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ جُعَيْلًا أَحَقُّ مِنْهُمْ لِمَا اخْتَبَرَهُ مِنْهُ دُونَهُمْ، وَلِهَذَا رَاجَعَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَأَرْشَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِعْلَامُهُ بِالْحِكْمَةِ فِي إِعْطَاءِ أُولَئِكَ وَحِرْمَانِ جُعَيْلٍ مَعَ كَوْنِهِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّنْ أَعْطَى ; لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ إِعْطَاءَ الْمُؤَلَّفِ لَمْ يُؤْمَنِ ارْتِدَادُهُ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
ثَانِيهُمَا: إِرْشَادُهُ إِلَى التَّوَقُّفِ عَنِ الثَّنَاءِ بِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ دُونَ الثَّنَاءِ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ، فَوَضَحَ بِهَذَا فَائِدَةُ رَدِّ الرَّسُولِ ﷺ عَلَى سَعْدٍ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَحْضَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ بِالْأَوْلَى، وَالْآخَرُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِذَارِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ سَعْدٍ، لِجُعَيْلٍ بِالْإِيمَانِ، وَلَوْ شَهِدَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ لَقُبِلَ مِنْهُ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ سَعْدٍ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ لَهُ وَالتَّوَسُّلِ فِي الطَّلَبِ لِأَجْلِهِ، فَلِهَذَا نُوقِشَ فِي لَفْظِهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَمَا اسْتَلْزَمَتِ الْمَشُورَةُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ الْأَوْلَى رَدَّ شَهَادَتِهِ، بَلِ السِّيَاقُ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ قَبِلَ قَوْلِهِ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ. وَرَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى جُعَيْلًا؟ قَالَ قُلْتُ: كَشَكْلِهِ مِنَ النَّاسِ، يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ: فَكَيْفَ تَرَى فُلَانًا؟ قَالَ: قُلْتُ: سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ النَّاسِ. قَالَ: فَجُعَيْلٌ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ فُلَانٍ. قَالَ: قُلْتُ: فَفُلَانٌ هَكَذَا وَأَنْتَ تَصْنَعُ بِهِ مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: إِنَّهُ رَأْسُ قَوْمِهِ، فَأَنَا أَتَأَلَّفُهُمْ بِهِ. فَهَذِهِ مَنْزِلَةُ جُعَيْلٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا تَرَى، فَظَهَرَتْ بِهَذَا الْحِكْمَةُ فِي حِرْمَانِهِ وَإِعْطَاءِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ حَقِيقَتَيِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَتَرْكِ الْقَطْعِ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ لِمَنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْعُ الْقَطْعِ بِالْجَنَّةِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا صَرِيحًا وَإِنْ تَعَرَّضَ لَهُ بَعْضُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute