الشَّارِحِينَ. نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ النَّصُّ، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ فِي اكْتِفَائِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِنُطْقِ اللِّسَانِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ وَتَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ وَإِنْ خَفِيَ وَجْهُ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الرَّعِيَّةِ. وَفِيهِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ فِيمَا يَعْتَقِدُ الشَّافِعُ جَوَازَهُ، وَتَنْبِيهُ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ عَلَى مَا يَظُنُّ أَنَّهُ ذَهِلَ عَنْهُ، وَمُرَاجَعَةُ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ فِي الْأَمْرِ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى مَفْسَدَةٍ، وَأَنَّ الْإِسْرَارَ بِالنَّصِيحَةِ أَوْلَى مِنَ الْإِعْلَانِ كَمَا سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَسَارَرْتُهُ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ إِذَا جَرَّ الْإِعْلَانُ إِلَى مَفْسَدَةٍ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُشِيرُ مَصْلَحَةً لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ. وَفِيهِ الِاعْتِذَارُ إِلَى الشَّافِعِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَرْكِ إِجَابَتِهِ، وَأَنْ لَا عَيْبَ عَلَى الشَّافِعِ إِذَا رُدَّتْ شَفَاعَتُهُ لِذَلِكَ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَرْكِ الْإِلْحَاحِ فِي السُّؤَالِ كَمَا اسْتَنْبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْهُ فِي الزَّكَاةِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ) حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ: أَيَّ عَطَاءٍ كَانَ.
قَوْلُهُ: (أَعْجَبُ إِلَيَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَحَبُّ وَكَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ وَمَا أُعْطِيهِ إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ إِلَخْ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ إِنِّي أُعْطِي رِجَالًا، وَأَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُمْ لَا أُعْطِيهِ شَيْئًا، مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَكُبَّهُ) هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْكَافِ يُقَالُ: أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا أَطْرَقَ، وَكَبَّهُ غَيْرُهُ إِذَا قَلَبَهُ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاس لِأَنَّ الْفِعْلَ اللَّازِمَ يَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَهَذَا زِيدَتْ عَلَيْهِ الْهَمْزَةُ فَقُصِرَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، فَقَالَ: يُقَالُ أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ، فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتُ: كَبَّهُ وَكَبَبْتُهُ. وَجَاءَ نَظِيرُ هَذَا فِي أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ مِنْهَا: أَنْسَلَ رِيشُ الطَّائِرِ وَنَسْلْتُهُ، وَأَنْزَفَتِ الْبِئْرُ وَنَزَفْتُهَا، وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمُتَعَدِّي كَبَّهُ وَأَكَبَّهُ مَعًا.
(تَنْبِيهٌ): لَيْسَ فِيهِ إِعَادَةُ السُّؤَالِ ثَانِيًا وَلَا الْجَوَابُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَرِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ جَمِيعًا عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدٍ آخَرَ قَالَ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَنَقَلَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنْ رَاوِيهِ وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ يُونُسُ) يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ الْأَيْلِيَّ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ الزُّهْرِيِّ الْمُلَقَّبِ رُسْتَهْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْهَاءِ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةٌ، وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْ سِيَاقِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، لَيْسَ فِيهِ إِعَادَةُ السُّؤَالِ ثَانِيًا وَلَا الْجَوَابُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَصَالِحٌ) يَعْنِي ابْنَ كَيْسَانَ، وَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَفِيهِ مِنِ اللَّطَائِفِ رِوَايَةُ ثَلَاثَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَهُمْ صَالِحٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَامِرٌ.
قَوْلُهُ: (وَمَعْمَرٌ) يَعْنِي ابْنَ رَاشِدٍ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ أَعَادَ السُّؤَالَ ثَلَاثًا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَوَقَعَ فِي إِسْنَادِهِ وَهْمٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ شَيْخِهِ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ الرِّوَايَاتِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَانِيدِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِزِيَادَةِ مَعْمَرٍ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا حَدَّثَ بِهِ ابْنُ أَبِي عُمَرَ شَيْخُ مُسْلِمٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَزَعَمَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْوَهْمَ مِنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ الْوَهْمُ صَدَرَ مِنْهُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ مُسْلِمًا، لَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْوَهْمُ فِي جِهَتِهِ، وَحَمَلَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّةً بِإِسْقَاطِ مَعْمَرٍ وَمَرَّةً بِإِثْبَاتِهِ، وَفِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ قَدْ تَضَافَرَتْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِإِثْبَاتِ مَعْمَرٍ، وَلَمْ يُوجَدْ بِإِسْقَاطِهِ إِلَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْمَوْجُودُ فِي مُسْنَدِ شَيْخِهِ بِلَا إِسْقَاطٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي كِتَابِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ، وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُهُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الْمَرْءَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ