للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

يَوْمئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ أَنَسٍ كَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ فَسَمِعَ النِّدَاءَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَرَجَعَ فَأَخْبَرَهُمْ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: فَأَرَاقُوا الشَّرَابَ وَتَوَضَّأَ بَعْضٌ وَاغْتَسَلَ بَعْضٌ، وَأَصَابُوا مِنْ طِيبِ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَتَوُا النَّبِيَّ ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ الْآيَةَ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَانَ مُبَاحًا لَا إِلَى نِهَايَةٍ، ثُمَّ حُرِّمَتْ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُبَاحُ الشُّرْبَ لَا السُّكْرَ الْمُزِيلَ لِلْعَقْلِ، وَحَكَاهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَفْسِيرُهُ عَنِ الْقَفَّالِ، وَنَازَعَهُ فِيهِ. وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّ السُّكْرَ لَمْ يَزَلْ مُحَرَّمًا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُودُ السُّكْرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، وَنُهُوا عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا فِي غَيْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاقِعًا. وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ حَمْزَةَ وَالشَّارِفَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي مَكَانِهِ.

وَعَلَى هَذَا فَهَلْ كَانَتْ مُبَاحَةً بِالْأَصْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ ثُمَّ نُسِخَتْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ يُسَمَّى خَمْرًا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا فِي بَابِ مَا جَاءَ أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَعَلَى أَنَّ السَّكَرَ الْمُتَّخَذَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ كَمَا يَحْرُمُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ مَا يُتَّخَذُ لِلسُّكْرِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ فَقَالُوا: يَحْرُمُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِلَّا إِذَا طُبِخَ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ.

وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَمْرِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَعَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِهِ كَوْنُهُ يَدْعُو إِلَى تَنَاوُلِ كَثِيرِهِ، فَيَلْزَمُ ذَلِكَ مَنْ فَرَّقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِهَا فَقَالَ فِي الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ: يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ وَالْكَثِيرُ إِلَّا إِذَا طُبِخَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَفِي الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِهَا لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا الْقَدْرُ الَّذِي يُسْكِرُ وَمَا دُونَهُ لَا يَحْرُمُ، فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِدَعْوَى الْمُغَايَرَةِ فِي الِاسْمِ مَعَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فِيهِمَا، فَإِنَّهُ كُلُّ مَا قُدِّرَ فِي الْمُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ يُقَدَّرُ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا مِنْ أَرْفَعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ لِمُسَاوَاةِ الْفَرْعِ فِيهِ لِلْأَصْلِ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ فِيهِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ الْخَمْرُ حَرَامٌ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ حَرَامٌ، وَلَا يَحْرُمُ الْمُسْكِرُ مِنْهُ حَتَّى يُسْكِرَ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا. فَقُلْتُ: كَيْفَ خَالَفْتَ مَا جَاءَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ ثُمَّ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافَهُ؟ قَالَ: وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ، قُلْتُ: فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَشَارَ إِلَى رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ ذِي لَعْوَةَ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ سَطِيحَةٍ لِعُمَرَ فَسَكِرَ فَجَلَدَهُ عُمَرُ، قَالَ: إِنَّمَا شَرِبْتُ مِنْ سَطِيحَتِكَ. قَالَ: أَضْرِبُكَ عَلَى السُّكْرِ. وَسَعِيدٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يُعْرَفُ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَعِيدُ بْنُ ذِي حُدَّانَ، وَهُوَ غَلَطٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي جَاءَتْ فِي كَسْرِ النَّبِيذِ بِالْمَاءِ، مِنْهَا حَدِيثُ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَ مِنْهُ فَقَطَّبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَبِيذَ الطَّائِفِ لَهُ عُرَامٌ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ - ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّهُ بَلَغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ، فَلَوْ كَانَ بَلَغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ لَمْ يَكُنْ صَبُّ الْمَاءِ عَلَيْهِ مُزِيلًا لِتَحْرِيمِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ بِذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ كَانَ بَلَغَ التَّحْرِيمَ لَكَانَ لَا يَحِلُّ، وَلَوْ ذَهَبَتْ شِدَّتُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ كَانَ غَيْرَ حَرَامٍ. قُلْتُ: وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِسْكَارِ فَلَا خِلَافَ فِي إِبَاحَةِ شُرْبِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ،