الْقُدَمَاءِ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْمُخَالِفُ لِلْقَوَاعِدِ دَعْوَى أَنْ يُكْتَبَ لَهُ ذَلِكَ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَأَمَّا أَنَّ اللَّهَ يُضِيفُ إِلَى حَسَنَاتِهِ فِي الْإِسْلَامِ ثَوَابَ مَا كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مِمَّا كَانَ يَظُنُّهُ خَيْرًا فَلَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ، وَكَمَا يَتَفَضَّلُ عَلَى الْعَاجِزِ بِثَوَابِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ قَادِرٌ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ ثَوَابَ مَا لَمْ يَعْمَلِ الْبَتَّةَ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ ثَوَابَ مَا عَمِلَهُ غَيْرَ مُوَفَّى الشُّرُوطِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لِلَّهِ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ بِأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ لَوْ مَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، بَلْ يَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ عَمَلِهِ الْأَوَّلِ يُكْتَبُ لَهُ مُضَافًا إِلَى عَمَلِهِ الثَّانِي، وَبِقَوْلِهِ ﷺ لَمَّا سَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ: وَمَا كَانَ يَصْنَعُهُ مِنَ الْخَيْرِ هَلْ يَنْفَعُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَهَا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ نَفَعَهُ مَا عَمِلَهُ فِي الْكُفْرِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ) أَيْ: كِتَابَةُ الْمُجَازَاةِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِأَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَانَ تَامَّةً، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعَ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ وَقَوْلُهُ: الْحَسَنَةُ مُبْتَدَأٌ، وَبِعَشْرِ الْخَبَرُ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: إِلَى سبعمائة مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ مُنْتَهِيَةٍ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْغَايَةِ فَزَعَمَ أَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يَتَجَاوَزُ سَبْعَمِائَةٍ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُضَاعِفُ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةِ بِأَنْ يَجْعَلَهَا سَبْعَمِائَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُضَاعِفُ السَّبْعَمِائَةِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا، وَالْمُصَرِّحُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُخَرَّجُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ وَلَفْظُهُ: كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا) زَادَ سَمَّوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ: إِلَّا أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ وَهُوَ الْغَفُورُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْمُوجِبِينَ لِخُلُودِ الْمُذْنِبِينَ فِي النَّارِ، فَأَوَّلُ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْحُسْنَ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهُ، وَآخِرُهُ يَرُدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
٤٢ - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ هَمَّامٍ) هُوَ ابْنُ مُنَبِّهٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ نُسْخَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمَرْوِيَّةِ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِفْرَادِ حَدِيثٍ مِنْ نُسْخَةٍ هَلْ يُسَاقُ بِإِسْنَادِهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدَأً بِهِ، أَوْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ وَمِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ، وَقِيلَ يَمْتَنِعُ، وَقِيلَ يَبْدَأُ أَبَدًا بِأَوَّلِ حَدِيثٍ وَيَذْكُرُ بَعْدَهُ مَا أَرَادَ. وَتَوَسَّطَ مُسْلِمٌ فَأَتَى بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُفْرَدَ مِنْ جُمْلَةِ النُّسْخَةِ فَيَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا انْتَهَى الْإِسْنَادُ: فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا كَذَا، ثُمَّ يَذْكُرُ أَيَّ حَدِيثٍ أَرَادَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ) كَذَا لَهُ وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَلِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ إِذَا حَسُنَ إِسْلَامُ أَحَدِكُمْ وَكَأَنَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ مِنْ لَازِمِهِ. وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ كَالْأَوَّلِ، وَالْخِطَابُ بِأَحَدِكُمْ بِحَسَبِ اللَّفْظِ لِلْحَاضِرِينَ، لَكِنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ حَصَلَ التَّنَازُعُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّنَاوُلِ أَهِيَ بِالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِالْمَجَازِ.
قَوْلُهُ: (فَكُلُّ حَسَنَةٍ) يُنْبِئُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute