الِاخْتِصَاصِ. وَفِي الْحَدِيثِ التَّبَسُّطُ عَلَى الصَّاحِبِ وَاسْتِدْعَاءُ مَا عِنْدِهُ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ، وَتَعْظِيمُهُ بِدُعَائِهِ بِكُنْيَتِهِ، وَالتَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ، وَاسْتِيهَابُ الصِّدِّيقِ مَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ هِبَتُهُ، وَلَعَلَّ سَهْلًا سَمَحَ بِذَلِكَ لِبَدَلٍ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا فَعَوَّضَهُ الْمُسْتَوْهِبُ مَا يَسُدُّ بِهِ حَاجَتَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ مِنْ جِهَةِ رَغْبَةِ الَّذِينَ سَأَلُوا سَهْلًا أَنْ يُخْرِجَ لَهُمُ الْقَدَحَ الْمَذْكُورَ لِيَشْرَبُوا فِيهِ تَبَرُّكًا بِهِ.
قَالَ: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فَتَرَكَهُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ) كَذَا أَخْرَجَ هُنَا، وَفِي غَيْرِه مَوْضِعٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ بِوَاسِطَةٍ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَالْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ كَانَ صِهْرَ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ فَكَانَ عِنْدَهُ عَنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، وَلَا وَجَدَ لَهُ أَبُو نُعَيْمٍ إِسْنَادًا غَيْرَ إِسْنَادِ الْبُخَارِيِّ فَأَخْرَجَهُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُدْرِكٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ حَدِيثُهُ، يَعْنِي أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ثُمَّ قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ: وَأَنَا رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرَّبْتُ مِنْهُ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: رَأَيْتَ هَذَا الْقَدَحَ بِالْبَصْرَةِ وَشَرِبْتُ مِنْهُ، وَكَانَ اشْتَرَى مِنْ مِيرَاثِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ قَدِ انْصَدَعَ) أَيِ انْشَقَّ.
قَوْلُهُ: (فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ) أَيْ وَصَلَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الَّذِي وَصَلَهُ هُوَ أَنَسٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ إِنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ ﷺ انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ لَكِنْ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ انْصَدَعَ فَجَعَلْتُ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. قَالَ - يَعْنِي أَنَسًا - هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَذَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ، فَمَا أَدْرِي مَنْ قَالَهُ مِنْ رُوَاتِهِ هَلْ هُوَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ أَوْ غَيْرُهُ. قُلْتُ: لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْ قَالَ هَذَا وَهُوَ جَعَلْتُ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ ضَمِيرُ الْقَائِلِ وَهُوَ أَنَسٌ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُعِلَتْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فَتُسَاوِي الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ. وَوَقَعَ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمٍ رَأَيْتُ عِنْدَ أَنَسٍ قَدَحَ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ ضَبَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ. وَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الصَّدْعُ، وَكَأَنَّهُ سَدَّ الشُّقُوقَ بِخُيُوطٍ مِنْ فِضَّةٍ فَصَارَتْ مِثْلَ السِّلْسِلَةِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ) الْقَائِلُ هُوَ عَاصِمٌ رَاوِيهِ، وَالْعَرِيضُ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَطَاوِلٍ بَلْ يَكُونُ طُولُهُ أَقْصَرَ مِنْ عُمْقِهِ، وَالنُّضَارُ بِضَمِّ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْخَالِصُ مِنَ الْعُودِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُقَالُ أَصْلُهُ مِنْ شَجَرِ النَّبْعِ، وَقِيلَ: مِنَ الْأَثْلِ، وَلَوْنُهُ يَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ: هُوَ أَجْوَدُ الْخَشَبِ لِلْآنِيَةِ. وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ النُّضَارُ التِّبْرُ وَالْخَشَبُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيْ عَاصِمٌ (قَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ الْعَسَلَ وَالنَّبِيذَ وَالْمَاءَ وَاللَّبَنَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِفَةُ النَّبِيذِ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُهُ، وَأَنَّهُ نَقِيعُ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيْ عَاصِمٌ (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ) هُوَ مُحَمَّدٌ، وَقَدْ فَصَّلَ أَبُو عَوَانَةَ فِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ مَا حَمَلَهُ عَاصِمٌ، عَنْ أَنَسٍ مِمَّا حَمَلَهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ الْمَاضِيَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّرَدُّدُ مِنْ أَنَسٍ عِنْدَ إِرَادَةِ ذَلِكَ أَوِ اسْتِشَارَتُهُ أَبَا طَلْحَةَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةُ