وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتَمِّمَ الْوُضُوءَ. وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ فِي رِوَايَتِهِ: وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ قَالَ فَذَكَرَ عُرَى الْإِسْلَامِ، فَتَبَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ: إِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ) زَادَ مُسْلِمٌ: الْمَكْتُوبَةَ أَيِ: الْمَفْرُوضَةَ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَكْتُوبَةِ لِلتَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ فِي الزَّكَاةِ بِالْمَفْرُوضَةِ، وَلِاتِّبَاعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾
قَوْلُهُ: (وَتَصُومَ رَمَضَانَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَوْلِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةِ شَهْرٍ إِلَيْهِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (الْإِحْسَانُ) هُوَ مَصْدَرٌ، تَقُولُ أَحْسَنَ يُحْسِنُ إِحْسَانًا. وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ تَقُولُ: أَحْسَنْتُ كَذَا إِذَا أَتْقَنْتُهُ، وَأَحْسَنْتُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا أَوْصَلْتُ إِلَيْهِ النَّفْعَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ يُلْحَظُ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُخْلِصَ مَثَلًا مُحْسِنٌ بِإِخْلَاصِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِحْسَانُ الْعِبَادَةِ الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالْخُشُوعُ وَفَرَاغُ الْبَالِ حَالَ التَّلَبُّسِ بِهَا وَمُرَاقَبَةُ الْمَعْبُودِ، وَأَشَارَ فِي الْجَوَابِ إِلَى حَالَتَيْنِ: أَرْفَعُهُمَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ بِقَلْبِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ، وهو قَوْلُهُ: كَأَنَّكَ تَرَاهُ أَيْ:، وهو يَرَاكَ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ الْحَقَّ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ يَرَى كُلَّ مَا يَعْمَلُ، وهو قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ يُثَمِّرُهُمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَخَشْيَتُهُ، وَقَدْ عَبَّرَ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنَّمَا تُرَاعِي الْآدَابَ الْمَذْكُورَةَ إِذَا كُنْتَ تَرَاهُ وَيَرَاكَ، لِكَوْنِهِ يَرَاكَ لَا لِكَوْنِكَ تَرَاهُ فَهُوَ دَائِمًا يَرَاكَ، فَأَحْسِنْ عِبَادَتَهُ وَإِنْ لَمْ تَرَهُ، فَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَاسْتَمِرَّ عَلَى إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.
قَالَ: وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْمُسْلِمِينَ، وهو عُمْدَةُ الصِّدِّيقِينَ وَبُغْيَةُ السَّالِكِينَ وَكَنْزُ الْعَارِفِينَ وَدَأْبُ الصَّالِحِينَ، وهو مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا ﷺ، وَقَدْ نَدَبَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ إِلَى مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ احْتِرَامًا لَهُمْ وَاسْتِحْيَاءً مِنْهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَزَالُ اللَّهُ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ؟ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ إِلَى أَصْلِ هَذَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي تَفْسِيرِ لُقْمَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ): دَلَّ سِيَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ غَيْرُ وَاقِعَةٍ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِيِّ ﷺ فَذَاكَ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَقَدْ صَرَّحَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِقَوْلِهِ ﷺ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا. وَأَقْدَمَ بَعْضُ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَالَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ - أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَصِرْ - شَيْئًا وَفَنِيتَ عَنْ نَفْسِكَ حَتَّى كَأَنَّكَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَإِنَّكَ حِينَئِذٍ تَرَاهُ. وَغَفَلَ قَائِلُ هَذَا - لِلْجَهْلِ بِالْعَرَبِيَّةِ - عَنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا زَعَمَ لَكَانَ قَوْلُهُ: تَرَاهُ مَحْذُوفَ الْأَلِفِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَجْزُومًا، لِكَوْنِهِ عَلَى زَعْمِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ إِثْبَاتَهَا فِي الْفِعْلِ الْمَجْزُومِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذْ لَا ضَرُورَةَ هُنَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ صَحِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ ضَائِعًا لِأَنَّهُ لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ. وَمِمَّا يُفْسِدُ تَأْوِيلَهُ رِوَايَةُ كَهْمَسٍ فَإِنَّ لَفْظَهَا فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، فَسَلَّطَ النَّفْيَ عَلَى الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى الْكَوْنِ الَّذِي حُمِلَ عَلَى ارْتِكَابِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ: فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلُّ هَذَا يُبْطِلُ التَّأْوِيلَ الْمُتَقَدِّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ قَوْلَ السَّائِلِ صَدَقْتَ عَقِبَ كُلِّ جَوَابٍ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ، وَزَادَ أَبُو فَرْوَةَ فِي رِوَايَتِهِ فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ أَنْكَرْنَاهُ وَفِي رِوَايَةِ كَهْمَسٍ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. وَفِي رِوَايَةِ مَطَرٍ: انْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْفَ يَسْأَلُهُ وَانْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْفَ يُصَدِّقُهُ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: انْظُرُوا، وهو يَسْأَلُهُ، وهو يُصَدِّقُهُ كَأَنَّهُ أَعْلَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute