كَثُرَ الْعَدَدُ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْخِصَالِ مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالتَّتَبُّعِ، مِنْهَا تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ، وَتَنْظِيفُ الْبَدَنِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَالِاحْتِيَاطُ لِلطَّهَارَتَيْنِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمُخَالَطِ وَالْمُقَارَنِ بِكَفِّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ مِنْ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ، وَمُخَالَفَةُ شِعَارِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ مِنْ مُنَاسَبَةِ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ حَسُنَتْ صُوَرُكُمْ فَلَا تُشَوِّهُوهَا بِمَا يُقَبِّحُهَا، أَوْ حَافِظُوا عَلَى مَا يَسْتَمِرُّ بِهِ حُسْنُهَا، وَفِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مُحَافَظَةٌ عَلَى الْمُرُوءَةِ وَعَلَى التَّآلُفِ الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا بَدَا فِي الْهَيْئَةِ الْجَمِيلَةِ كَانَ أَدْعَى لِانْبِسَاطِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيُحْمَدُ رَأْيُهُ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ. وَأَمَّا شَرْحُ الْفِطْرَةِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ هُنَا السُّنَّةُ، وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُهُ، قَالُوا وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَعْنِيُّ بِالْفِطْرَةِ الدِّينُ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الدِّينُ، وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: مَعْنَى الْفِطْرَةِ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى السُّنَّةِ، لَكِنْ لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ سُنَّةُ الْفِطْرَةِ.
وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ هُوَ الصَّوَابُ. فَإِنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، قَالَ: وَأَصَحُّ مَا فَسَّرَ الْحَدِيثَ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا سِيَّمَا فِي الْبُخَارِيِّ اهـ. وَقَدْ تَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ عَلَى هَذَا، وَلَمْ أَرَ الَّذِي قَالَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، بَلِ الَّذِي فِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: الْفِطْرَةِ، وَكَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. نَعَمْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِالسُّنَّةِ مَوْضِعَ الْفِطْرَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى بِلَفْظِ الْفِطْرَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْفَطْرِ بِفَتْحِ الْفَاءِ الشَّقُّ طُولًا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَهْيِ وَعَلَى الِاخْتِرَاعِ وَعَلَى الْإِيجَادِ، وَالْفِطْرَةُ والْإِيجَادُ عَلَى غَيْرِ مِثلٍ.
وَقَالَ أَبُو شَامَةَ، أَصْلُ الْفِطْرَةِ الْخِلْقَةُ الْمُبْتَدَأَةُ، وَمِنْهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيِ الْمُبْتَدِئُ خَلْقَهُنَّ، وَقَوْلُهُ ﷺ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَيْ عَلَى مَا ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَوْ تُرِكَ مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ وَمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ نَظَرُهُ لَأَدَّاهُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهَا: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ حَيْثُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِذَا فُعِلَتِ اتَّصَفَ فَاعِلُهَا بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَيْهَا وَحَثَّهُمْ عَلَيْهَا وَاسْتَحَبَّهَا لَهُمْ لِيَكُونُوا عَلَى أَكْمَلِ الصِّفَاتِ وَأَشْرَفِهَا صُورَةً اهـ. وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ الْفِطْرَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى مَجْمُوعِ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ الِاخْتِرَاعُ وَالْجِبِلَّةُ وَالدِّينُ وَالسُّنَّةُ فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ، وَكَأَنَّهَا أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فُطِرُوا عَلَيْهَا انْتَهَى.
وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ فِي قَوْلِهِ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، أَنَّ قَوْلَهُ: خَمْسٌ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ خِصَالٌ خَمْسٌ ثُمَّ فَسَّرَهَا، أَوْ عَلَى الْإِضَافَةِ أَيْ خَمْسُ خِصَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي شُرِعَ لَكُمْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَالتَّعْبِيرُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ بِالسُّنَّةِ بَدَلَ الْفِطْرَةِ يُرَادُ بِهَا الطَّرِيقَةُ لَا الَّتِي تُقَابِلُ الْوَاجِبَ، وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقَالُوا: هُوَ كَالْحَدِيثِ الْآخَرِ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَغْرَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: عِنْدِي أَنَّ الْخِصَالَ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ، فَإِنَّ الْمَرْءَ لَوْ تَرَكَهَا لَمْ تَبْقَ صُورَتُهُ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ فَكَيْفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute