للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الشَّعْبِيِّ رَوَاهُ عَنْهُ جَمْعٌ جَمٌّ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، وَقَدْ سَاقَ الْبُخَارِيُّ إِسْنَادَهُ فِي الْبُيُوعِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَسَاقَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنُشِيرُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ) أَيْ فِي عَيْنِهِمَا وَوَصْفِهِمَا بِأَدِلَّتِهِمَا الظَّاهِرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ) بِوَزْنِ مُفَعَّلَاتٍ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ الْمَفْتُوحَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، أَيْ: شُبِّهَتْ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ حُكْمُهَا عَلَى التَّعْيِينِ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: مُشْتَبِهَاتٌ بِوَزْنِ مُفْتَعِلَاتٍ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَعَيْنٍ خَفِيفَةٍ مَكْسُورَةٍ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ، وهو لَفْظُ ابْنِ عَوْنٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُوَحَّدَةٌ اكْتَسَبَتِ الشَّبَهَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ.

قَوْلُهُ: (لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أَيْ: لَا يَعْلَمُ حُكْمَهَا، وَجَاءَ وَاضِحًا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ لَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمِنَ الْحَلَالِ هِيَ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ كَثِيرٌ أَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِهَا مُمْكِنٌ لَكِنْ لِلْقَلِيلِ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، فَالشُّبُهَاتُ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَقَعُ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ) أَيْ: حَذِرَ مِنْهَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي لَفْظِهَا بَيْنَ الرُّوَاةِ نَظِيرُ الَّتِي قَبْلَهَا لَكِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ: الشُّبُهَاتِ بِالضَّمِّ جَمْعُ شُبْهَةٍ.

قَوْلُهُ: (اسْتَبْرَأَ) بِالْهَمْزِ بِوَزْنِ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْبَرَاءَةِ، أَيْ: بَرَّأَ دِينَهُ مِنَ النَّقْصِ وَعِرْضَهُ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِاجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ لَمْ يَسْلَمْ لِقَوْلِ مَنْ يَطْعَنُ فِيهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَوَقَّ الشُّبْهَةَ فِي كَسْبِهِ وَمَعَاشِهِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلطَّعْنِ فِيهِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ الْمُرُوءَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ) فِيهَا أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ. وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الشُّبُهَاتِ فَقِيلَ التَّحْرِيمُ، وهو مَرْدُودٌ. وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ، وَقِيلَ الْوَقْفُ. وهو كَالْخِلَافِ فِيمَا قَبْلَ الشَّرْعِ. وَحَاصِلُ مَا فَسَّرَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الشُّبُهَاتِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثَانِيهَا: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ مُنْتَزَعَةٌ مِنَ الْأُولَى، ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مُسَمَّى الْمَكْرُوهِ لِأَنَّهُ يَجْتَذِبُهُ جَانِبَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، رَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُبَاحُ، وَلَا يُمْكِنُ قَائِلُ هَذَا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَكُونَ مِنْ قِسْمٍ خِلَافَ الْأَوْلَى، بِأَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، رَاجِحَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي مَنَاقِبِ شَيْخِهِ الْقَبَّارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمَكْرُوهُ عَقَبَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحَرَامِ، فَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْمَكْرُوِهِ تَطَرَّقَ إِلَى الْحَرَامِ، وَالْمُبَاحُ عَقَبَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْرُوهِ، فَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ تَطَرَّقَ إِلَى الْمَكْرُوِهِ، وهو مَنْزَعٌ حَسَنٌ.

وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ ذَكَرَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحلَالِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ أَرْتَعَ فِيهِ كَانَ كَالْمُرْتِعِ إِلَى جَنْبِ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَلَالَ حَيْثُ يُخْشَى أَنْ يَئُولَ فِعْلُهُ مُطْلَقًا إِلَى مَكْرُوهٍ أَوْ مُحَرَّمٍ يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ، كَالْإِكْثَارِ مَثَلًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَإِنَّهُ يُحْوِجُ إِلَى كَثْرَةِ الِاكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي أَخْذِ مَا لَا يُسْتَحَقُّ أَوْ يُفْضِي إِلَى بَطَرِ النَّفْسِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ الِاشْتِغَالُ عَنْ مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ مُشَاهَدٌ بِالْعِيَانِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْأَوْجُهِ مُرَادًا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ: فَالْعَالِمُ الْفَطِنُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَمْيِيزُ الْحُكْمِ فَلَا يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْمُبَاحِ أَوِ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ، وَدُونَهُ تَقَعُ لَهُ الشُّبْهَةُ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُسْتَكْثِرَ مِنَ الْمَكْرُوِهِ تَصِيرُ فِيهِ جُرْأَةٌ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ يَحْمِلُهُ اعْتِيَادُهُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ غَيْرِ الْمُحَرَّمِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ الْمُحَرَّمِ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ. أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ فِيهِ، وهو أَنَّ مَنْ تَعَاطَى مَا نُهِيَ عَنْهُ يَصِيرُ مُظْلِمَ الْقَلْبِ لِفِقْدَانِ نُورِ الْوَرَعِ فَيَقَعُ فِي