الْحَرَامِ وَلَوْ لَمْ يَخْتَرِ الْوُقُوعَ فِيهِ.
وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ لَهُ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَهَذَا يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ): اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى جَوَازِ بَقَاءِ الْمُجْمَلِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، إِلَّا إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مُنْكِرِي الْقِيَاسِ فَيُحْتَمَلُ مَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (كَرَاعٍ يَرْعَى) هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ مَحْذُوفُ جَوَابِ الشَّرْطِ إِنْ أُعْرِبَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَحْذُوفُ فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى وَيُمْكِنُ إِعْرَابُ مَنْ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ مَوْصُولَةً فَلَا يَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ وَالَّذِي وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ مِثْلُ رَاعٍ يَرْعَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِثُبُوتِ الْمَحْذُوفِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا الَّتِي أَخْرَجَهُ مِنْهَا الْمُؤَلِّفُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: كَرَاعٍ يَرْعَى جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَرَدَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلتَّنْبِيهِ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ. وَالْحِمَى الْمَحْمِيُّ، أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَفِي اخْتِصَاصِ التَّمْثِيلِ بِذَلِكَ نُكْتَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مُلُوكَ الْعَرَبِ كَانُوا يَحْمُونَ لِمَرَاعِي مَوَاشِيهِمْ أَمَاكِنَ مُخْتَصَّةً يَتَوَعَّدُونَ مَنْ يَرْعَى فِيهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ، فَمَثَّلَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، فَالْخَائِفُ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمُرَاقِبُ لِرِضَا الْمَلِكِ يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ الْحِمَى خَشْيَةَ أَنْ تَقَعَ مَوَاشِيهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، فَبُعْدُهُ أَسْلَمُ لَهُ وَلَوِ اشْتَدَّ حَذَرُهُ. وَغَيْرُ الْخَائِفِ الْمُرَاقِبُ يَقْرُبُ مِنْهُ وَيَرْعَى مِنْ جَوَانِبِهِ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَنْفَرِدَ الْفَاذَّةُ فَتَقَعُ فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَوْ يَمْحَلُ الْمَكَانُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَيَقَعُ الْخِصْبُ فِي الْحِمَى فَلَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ. فَاللَّهُ ﷾ هُوَ الْمَلِكُ حَقًّا، وَحِمَاهُ مَحَارِمُهُ.
(تَنْبِيهٌ): ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّمْثِيلَ مِنْ كَلَامِ الشَّعْبِيِّ، وَأَنَّهُ مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى دَلِيلِهِ إِلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ الْجَارُودِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: لَا أَدْرِي الْمَثَلَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ أَوْ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ. قُلْتُ: وَتَرَدُّدُ ابْنِ عَوْنٍ فِي رَفْعِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مُدْرَجًا ; لِأَنَّ الْأَثْبَاتَ قَدْ جَزَمُوا بِاتِّصَالِهِ وَرَفْعِهِ، فَلَا يَقْدَحُ شَكُّ بَعْضِهِمْ فِيهِ. وَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْمَثَلِ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ - كَأَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ - لَا يَقْدَحُ فِيمَنْ أَثْبَتَهُ ; لِأَنَّهُمْ حُفَّاظٌ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي حَذْفِ الْبُخَارِيِّ قَوْلَهُ: وَقَعَ فِي الْحَرَامِ: لِيَصِيرَ مَا قَبْلَ الْمَثَلِ مُرْتَبِطًا بِهِ فَيَسْلَمُ مِنْ دَعْوَى الْإِدْرَاجِ. وَمِمَّا يُقَوِّي عَدَمَ الْإِدْرَاجِ رِوَايَةُ ابْنِ حِبَّانٍ الْمَاضِيَةُ، وَكَذَا ثُبُوتُ الْمَثَلِ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ) سَقَطَ فِي أَرْضِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَحَارِمِ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ الْمُحَرَّمِ أَوْ تَرْكُ الْمَأْمُورِ الْوَاجِبِ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ التَّعْبِيرُ بِالْمَعَاصِي بَدَلَ الْمَحَارِمِ. وَقَوْلُهُ: أَلَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى صِحَّةِ مَا بَعْدَهَا، وَفِي إِعَادَتِهَا وَتَكْرِيرِهَا دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ مَدْلُولِهَا.
قَوْلُهُ: (مُضْغَةٌ) أَيْ: قَدْرُ مَا يُمْضَغُ، وَعَبَّرَ بِهَا هُنَا عَنْ مِقْدَارِ الْقَلْبِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ فِي الْأُمُورِ، أَوْ لِأَنَّهُ خَالِصُ مَا فِي الْبَدَنِ، وَخَالِصُ كُلِّ شَيْءٍ قَلْبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ وُضِعَ فِي الْجَسَدِ مَقْلُوبًا. وَقَوْلُهُ: إِذَا صَلَحَتْ وإِذَا فَسَدَتْ هُوَ بِفَتْحِ عَيْنِهِمَا وَتُضَمُّ فِي الْمُضَارِعِ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ الضَّمَّ فِي مَاضِي صَلَحَ، وهو يُضَمُّ وِفَاقًا إِذَا صَارَ لَهُ الصَّلَاحُ هَيْئَةً لَازِمَةً لِشَرَفٍ وَنَحْوِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِإِذَا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ غَالِبًا، وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى إِنْ كَمَا هُنَا. وَخَصَّ الْقَلْبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْبَدَنِ، وَبِصَلَاحِ الْأَمِيرِ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ، وَبِفَسَادِهِ تَفْسُدُ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَعْظِيمِ قَدْرِ الْقَلْبِ، وَالْحَثُّ عَلَى صَلَاحِهِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ لِطِيبِ الْكَسْبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute