فَعَلَى هَذَا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا إِتْبَاعَ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ لَيْسَ الْخَزَايَا وَلَا النَّادِمِينَ وَهِيَ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: بَشَّرَهُمْ بِالْخَيْرِ عَاجِلًا وَآجِلًا ; لِأَنَّ النَّدَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْعَاقِبَةِ، فَإِذَا انْتَفَتْ ثَبَتَ ضِدُّهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الثَّنَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ إِذَا أُمِنَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: يا رسول الله،) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَ الْمُقَابَلَةِ مُسْلِمِينَ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِمْ كُفَّارُ مُضَرَ وَفِي قَوْلِهِمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ)، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ إِلَّا فِي شَهْرِ الْحَرَامِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَهِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ الْجِنْسُ فَيَشْمَلُ الْأَرْبَعَةَ الْحُرُمَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ قُرَّةَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْمَغَازِي بِلَفْظِ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ وَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَهُ فِي الْمَنَاقِبِ بِلَفْظِ إِلَّا فِي كُلِّ شَهْرٍ حَرَامٍ وَقِيلَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ شَهْرُ رَجَبٍ، وَفِي رِوَايَةِ لِلْبَيْهَقِيِّ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَكَانَتْ مُضَرُ تُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِ شَهْرِ رَجَبٍ، فَلِهَذَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ حَيْثُ قَالَ رَجَبُ مُضَرَ كَمَا سَيَأْتِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخُصُّونَهُ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ مَعَ تَحْرِيمِهِمُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، إِلَّا أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَنْسَأُوهَا بِخِلَافِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى قَبَائِلَ مُضَرَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ وَمَا وَالَاهَا مِنْ أَطْرَافِ الْعِرَاقِ، وَلِهَذَا قَالُوا - كَمَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْعِلْمِ - وَإِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الشُّقَّةُ السَّفَرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي تُقْصَدُ.
وَيَدُلُّ عَلَى سَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَمْرَةَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ - بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ - فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ، وَجُوَاثَى بِضَمِّ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُثَلَّثَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَهِيَ قَرْيَةٌ شَهِيرَةٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا جَمَّعُوا بَعْدَ رُجُوعِ وَفْدِهِمْ إِلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَبَقُوا جَمِيعَ الْقُرَى إِلَى الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (بِأَمْرٍ فَصْلٍ) بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا لَا بِالْإِضَافَةِ، وَالْأَمْرُ: وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، أَيْ: مُرْنَا بِعَمَلٍ بِوَاسِطَةِ افْعَلُوا، وَلِهَذَا قَالَ الرَّاوِي أَمَرَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ آمُرُكُمْ، وَلَهُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ بِصِيغَةِ افْعَلُوا. والْفَصْلُ بِمَعْنَى الْفَاصِلِ كَالْعَدْلِ بِمَعْنَى الْعَادِلِ، أَيْ: يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُفَصَّلِ أَيِ الْمُبَيَّنِ الْمَكْشُوفِ حَكَاهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَصْلُ الْبَيِّنُ وَقِيلَ الْمُحْكَمُ.
قَوْلُهُ: (نُخْبِرُ بِهِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِأَمْرٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَنَدْخُلُ، وَيُرْوَى بِالْجَزْمِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ. وَسَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ وَنَدْخُلُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَيُرْفَعُ نُخْبِرُ وَيُجْزَمُ نَدْخُلُ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِبْدَاءِ الْعُذْرِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَوْفِيَةِ الْحَقِّ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَعَلَى أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْأَهَمِّ، وَعَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِذَا قُبِلَتْ، وَقَبُولُهَا يَقَعُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ) أَيْ: خِصَالٍ أَوْ جُمَلٍ، لِقَوْلِهِمْ حَدِّثْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الْأَمْرِ وَهِيَ رِوَايَةُ قُرَّةَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي الْمَغَازِي، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ الْأَرْبَعِ الْمَأْمُورِ بِهَا إِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ تَبَرُّكًا بِهِمَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ وَإِلَى هَذَا نَحَا الطِّيبِيُّ فَقَالَ: عَادَةُ الْبُلَغَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا لِغَرَضٍ جَعَلُوا سِيَاقَهُ لَهُ وَطَرَحُوا مَا عَدَاهُ، وَهُنَا لَمْ يَكُنِ الْغَرَضُ فِي الْإِيرَادِ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ - لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ - وَلَكِنْ رُبَّمَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْإِيمَانَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمَا كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلِهَذَا لَمْ يَعُدَّ الشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَوَامِرِ. قِيلَ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَوْلَا وُجُودُ حَرْفِ الْعَطْفِ لَقُلْنَا: إِنَّ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ