التَّابِعِينَ، سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَمَنْ دُونَهُ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ الْبَابِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَبَيَانُ بْنُ بِشْرٍ وَهُمَا كُوفِيَّانِ وَلَمْ يُنْسَبَا إِلَى النَّصْبِ، لَكِنَّ الرَّاوِي عَنْ بَيَانٍ وَهُوَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ أُمَوِيٌّ قَدْ نُسِبَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّصْبِ، أَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ مَا كَانَ فَحَاشَاهُ أَنْ يُتَّهَمَ، وَلِلْحَدِيثِ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا فِي مُؤْمِنِي آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ الْمَجْمُوعُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِآلِ أَبِي طَالِبٍ أَبُو طَالِبٍ نَفْسُهُ وَهُوَ إِطْلَاقٌ سَائِغٌ كَقَوْلِهِ فِي أَبِي مُوسَى: إِنَّهُ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ وَقَوْلُهُ ﷺ: آلُ أَبِي أَوْفَى وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ مُبَالَغَةً فِي الِانْتِفَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ لِكَوْنِهِ عَنهُ، وَشَقِيقَ أَبِيهِ، وَكَانَ الْقَيِّمَ بِأَمْرِهِ وَنَصْرِهِ وَحِمَايَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَى دِينِهِ انْتَفَى مِنْ مُوَالَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ وَإِرَادَةِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَرْقَانِيِّ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي التَّحْرِيمِ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ لَكِنْ حُذِفَتِ الْوَاوُ مِنَ الْخَطِّ عَلَى وَفْقِ النُّطْقِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ وَلِيِّيَ مَنْ كَانَ صَالِحًا وَأنْ بَعُدَ مِنِّي نَسَبُهُ، وَلَيْسَ وَلِيِّيَ مَنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ وَإِنْ قَرُبَ مِنِّي نَسَبُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَائِدَةُ الْحَدِيثِ انْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا حَمِيمًا.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَوْجَبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْوِلَايَةَ بِالدِّينِ وَنَفَاهَا عَنْ أَهْلِ رَحِمِهِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَحْتَاجُ إِلَى الْوِلَايَةِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْمُوَارَثَةُ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبِينَ، وَأَنَّ الْأَقَارِبَ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ تَوَارُثٌ وَلَا وِلَايَةٌ، قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّحِمَ الْمَأْمُورَ بِصِلَتِهَا وَالْمُتَوَعَّدَ عَلَى قَطْعِهَا هِيَ الَّتِي شُرِعَ لَهَا ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ أُمِرَ بِقَطْعِهِ مِنْ أَجْلِ الدِّينِ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْحَقُ بِالْوَعِيدِ مَنْ قَطَعَهُ لِأَنَّهُ قَطَعَ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ، لَكِنْ لَوْ وَصَلُوا بِمَا يُبَاحُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لَكَانَ فَضْلًا، كَمَا دَعَا ﷺ لِقُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا كَذَّبُوهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِالْقَحْطِ، ثُمَّ اسْتَشْفَعُوا بِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ بِرَحِمِهِمْ، فَرَحِمَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ.
قُلْتُ: وَيُتَعَقَّبُ كَلَامُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُشَارِكُهُ فِيهِ كَلَامُ غَيْرِهِ وَهُوَ قَصْرُهُ النَّفْيَ عَلَى مَنْ لَيْسَ عَلَى الدِّينِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ فِي أَعْمَالِ الدِّينِ دَخَلَ فِي النَّفْيِ أَيْضًا لِتَقْيِيدِهِ الْوِلَايَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وَالثَّانِي: أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ الْكَافِرِ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهَا بِمَا إِذَا أَيِسَ مِنْهُ رُجُوعًا عَنِ الْكُفْرِ، أَوْ رَجَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ صُلْبِهِ مُسْلِمٌ، كَمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي اسْتُدِلَّ بِهَا وَهِيَ دُعَاءُ النَّبِيِّ ﷺ لِقُرَيْشٍ بِالْخِصْبِ وَعُلِّلَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ مَنْ يَتَرَخَّصُ فِي صِلَةِ رَحِمِهِ الْكَافِرِ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى الدِّينِ وَلَكِنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي الْأَعْمَالِ مَثَلًا فَلَا يُشَارِكُ الْكَافِرَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: الْمَعْنَى أَنِّي لَا أُوَالِي أَحَدًا بِالْقَرَابَةِ، وَإِنَّمَا أُحِبُّ اللَّهَ - تَعَالَى - لِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْعِبَادِ، وَأُحِبُّ صَالِحَ الْمُؤْمِنِينَ لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَأُوَالِي مَنْ أُوَالِي بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذَوِيِ رَحِمٍ أَوْ لَا، وَلَكِنْ أَرْعَى لِذَوِي الرَّحِمِ حَقَّهُمْ لِصِلَةِ الرَّحِمِ، انْتَهَى.
وَهُوَ كَلَامٌ مُنَقَّحٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَما: الْأَنْبِيَاءُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ النَّقَّاشُ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ.
الثَّانِي: الصَّحَابَةُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَنَحْوُهُ فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: هُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَأَشْبَاهُهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ.
الثَّالِثُ: خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ.
الرَّابِعُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
الْخَامِسُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ،