قَوْلُهُ: (بَابٌ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَاحِشًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَا مُتَفَحِّشًا بِالتَّشْدِيدِ كَمَا فِي لَفْظِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْر وفِي الْبَابِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ مُتَفَاحِشًا، وَالْفُحْشُ كُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ مِقْدَارِهِ حَتَّى يُسْتَقْبَحَ، وَيَدْخُلَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالصِّفَةِ، يُقَالُ طَوِيلٌ فَاحِشُ الطُّولِ إِذَا أَفْرَطَ فِي طُولِهِ، لَكِنِ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْقَوْلِ أَكْثَرُ. وَالْمُتَفَحِّشُ بِالتَّشْدِيدِ الَّذِي يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيُكْثِرُ مِنْهُ وَيَتَكَلَّفُهُ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ، فَقَالَ: الْفَاحِشُ الَّذِي يَقُولُ الْفُحْشَ، وَالْمُتَفَحِّشُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُ الْفُحْشَ لِيُضْحِكَ النَّاسَ. ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:
الحديث الأول حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْر، وأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَعْمَشُ، سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، وَمَنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَتْنُ بِتَمَامِهِ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ، وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَوَقَعَ هُنَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: إِنَّ خَيْرَكُمْ، وَتَبَيَّنَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ مِنْ مُرَادَةٌ فِيهِ. وَوَقَعَ لِلْأَكْثَرِ أَخْيَرُكُمْ بِوَزْنِ أَفْضَلِكُمْ، وَمَعْنَاهُ وَهِيَ عَلَى الْأَصْلِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى بِمَعْنَاهَا، يُقَالُ فُلَانٌ خَيْرٌ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ فَاحشٍ مُتَفَحِّشٍ.
الحديث الثاني حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ الرِّفْقِ، وَأَنَّ شَرْحَهُ يَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَوَقَعَ هُنَا: يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ. وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ عَيْنَ الْعُنْفِ مُثَلَّثَةٌ وَالْمَشْهُورُ ضَمُّهَا.
الحديث الثالث حَدِيثُ أَنَسٍ قَوْلُهُ: (سَبَّابًا) بِالْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ - وَيَجُوزُ فَتْحُهَا - بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَهِيَ مَصْدَرُ عَتَبَ عَلَيْهِ يَعْتِبُ عَتَبًا وَعِتَابًا وَمَعْتَبَةً وَمُعَاتَبَةً، قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِتَابُ مُخَاطَبَةُ الْإِدْلَالِ، وَمُذَاكَرَةُ الْمُوحدَةِ.
قَوْلُهُ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى خَرَّ لِوَجْهِهِ فَأَصَابَ التُّرَابُ جَبِينَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَهُ بِالْعِبَادَةِ كَأَنْ يُصَلِّي فَيَتْرَبُ جَبِينُهُ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْجَبِينَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، قَالَ ثَعْلَبٌ: الْجَبِينَانِ يَكْتَنِفَانِ الْجَبْهَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى جَبِينِهِ.
قُلْتُ: وَأَيْضًا فَالثَّانِي بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اسْتَعْمَلَهَا الْعَرَبُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا وَضْعَ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: قَوْلُهُ تَرِبَ جَبِينُهُ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَهِيَ مِنَ التُّرَابِ، أَيْ سَقَطَ جَبِينُهُ لِلْأَرْضِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ رَغِمَ أَنْفُهُ، وَلَكِنْ لَا يُرَادُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَرِبَ جَبِينُهُ، بَلْ هُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ، أَيْ أنَّهَا كَلِمَةٌ تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ وَلَا يُرَادُ حَقِيقَتَهَا.
الحديث الرابع حديث عائشة، قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى) هُوَ أَبُو عُثْمَانَ الضُّبَعِيُّ الْبَصْرِيُّ، ثِقَةٌ مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ هُوَ أَبُو الْخَطَّابِ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ أَيْضًا، لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ وَآخَرُ فِي الْمَنَاقِبِ. وَشَيْخُهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَفِي بَابِ الْمُدَارَاةِ، وَمَعْمَرٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَسِيَاقُ رَوْحٍ أَتَمُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ.
قَوْلُهُ: (أنَّ رَجُلًا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ، وَرَجَا النَّبِيُّ ﷺ بِإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ تَأَلُّفَهُ لِيُسْلِمَ قَوْمُهُ لِأَنَّهُ كَانَ رَئِيسُهُمْ، وَكَذَا فَسَّرَهُ بِهِ عِيَاضٌ ثُمَّ الْقُرْطُبِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ جَازِمِينَ بِذَلِكَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ ولَكِنِ احْتِمَالًا لَا جَزْمًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ