اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ: اسْتَأْذَنَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَالَ: بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عُيَيْنَةَ اسْتَأْذَنَ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْغَنِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْخَرَّازِ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَسْتَأْذِنُ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ صَوْتَهُ، قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ الْحَدِيثَ، وَهَكَذَا وَقَعَ لَنَا فِي أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ فَوَائِدِ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيِّ وَأَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ. وَقَدْ حَكَى الْمُنْذِرُ فِي مُخْتَصَرِهِ الْقَوْلَيْنِ؛ فَقَالَ: هُوَ عُيَيْنَةُ، وَقِيلَ: مَخْرَمَةُ. وَأَمَّا شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُ مَخْرَمَةُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ حَاشِيَةٍ بِخَطِّ الدِّمْيَاطِيِّ فَقَصَّرَ، لَكِنَّهُ حَكَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ التِّينِ أَنَّهُ جَوَّزَ أَنَّهُ عُيَيْنَةُ قَالَ: وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ.
قَوْلُهُ: (بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: بِئْسَ أَخُو الْقَوْمِ وَابْنُ الْقَوْمِ، وَهِيَ بِالْمَعْنَى، قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِالْعَشِيرَةِ الْجَمَاعَةُ أَوِ الْقَبِيلَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَشِيرَةُ الْأَدْنَى إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهِ، وَهُمْ وَلَدُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ أَبْدَى لَهُ طَلَاقَةَ وَجْهِهِ، يُقَالُ: وَجْهُهُ طَلْقٌ وَطَلِيقٌ؛ أَيْ مُسْتَرْسِلٌ مُنْبَسِطٌ غَيْرُ عَبُوسٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَامِرٍ: بَشَّ فِي وَجْهِهِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: وَاسْتَأْذَنَ آخَرُ، فَقَالَ: نِعْمَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ لَمْ يَهَشَّ لَهُ وَلَمْ يَنْبَسِطْ كَمَا فَعَلَ بِالْآخَرِ، فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ عِلْمًا وَأَدَبًا، وَلَيْسَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أُمَّتِهِ بِالْأُمُورِ الَّتِي يُسَمِّيهِمْ بِهَا وَيُضِيفُهَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ غِيبَةٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَيُفْصِحَ بِهِ وَيُعَرِّفَ النَّاسَ أَمْرَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَلَكِنَّهُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَمِ وَأُعْطِيَهِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ أَظْهَرَ لَهُ الْبَشَاشَةَ وَلَمْ يُجِبْهُ بِالْمَكْرُوهِ، هذا لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّتُهُ فِي اتِّقَاءِ شَرِّ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ، وَفِي مُدَارَاتِهِ لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِ وَغَائِلَتِهِ.
قُلْتُ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْخَصَائِصِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ مَنِ اطَّلَعَ مِنْ حَالِ شَخْصٍ عَلَى شَيْءٍ، وَخَشِيَ أَنَّ غَيْرَهُ يَغْتَرُّ بِجَمِيلِ ظَاهِرِهِ فَيَقَعُ فِي مَحْذُورٍ مَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى مَا يَحْذَرُ مِنْ ذَلِكَ قَاصِدًا نَصِيحَتَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُكْشَفَ لَهُ عَنْ حَالِ مَنْ يَغْتَرُّ بِشَخْصٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِعَهُ الْمُغْتَرُّ عَلَى حَالِهِ، فَيُذَمُّ الشَّخْصَ بِحَضْرَتِهِ لِيَتَجَنَّبَهُ الْمُغْتَرُّ لِيَكُونَ نَصِيحَةً، بِخِلَافِ غَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَإِنَّ جَوَازَ ذَمِّهِ لِلشَّخْصِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ مِمَّنْ يُرِيدُ نُصْحَهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ غِيبَةِ الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ أَوِ الْفُحْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْجَوارِ فِي الْحُكْمِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْبِدْعَةِ مَعَ جَوَازِ مُدَارَاتِهِمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِمْ، مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ فِي دِينِ اللَّهِ - تَعَالَى -. ثُمَّ قَالَ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ أَنَّ الْمُدَارَاةَ بَذْلُ الدُّنْيَا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا أَوِ الدِّينِ أَوْ هُمَا مَعًا، وَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَرُبَّمَا اسْتُحِبَّتْ، وَالْمُدَاهَنَةُ تَرْكُ الدِّينِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا، وَالنَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا بَذَلَ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ حُسْنَ عِشْرَتِهِ وَالرِّفْقَ فِي مُكَالَمَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَمْدَحْهُ بِقَوْلٍ فَلَمْ يُنَاقِضْ قَوْلُهُ فِيهِ فِعْلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِيهِ قَوْلُ حَقٍّ، وَفِعْلَهُ مَعَهُ حُسْنُ عِشْرَةٍ، فَيَزُولُ مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَكُنْ عُيَيْنَةُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - حِينَئِذٍ أَسْلَمَ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ فِيهِ غِيبَةً، أَوْ كَانَ أَسْلَمَ وَلَمْ يَكُنْ إِسْلَامُهُ نَاصِحًا، فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَهُ، وَقَدْ كَانَتْ مِنْهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَبَعْدَهُ أُمُورٌ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ؛ فَيَكُونُ مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ جُمْلَةِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا إِلَانَةُ الْقَوْلِ لَهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فَعَلَى سَبِيلِ التَّأَلُّفِ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْمُدَارَاةِ، وَفِي جَوَازِ غِيبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَنَحْوِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مَتَى عَهِدْتِنِي فَاحِشًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَحَّاشًا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ تَرَكَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute