قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَوْ بِسُكُونِ الْكَافِ وَضَمِّ النُّونِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَا تَكْتَنُوا؛ بِسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا نُونٌ.
قَوْلُهُ: (بِكُنْيَتِي) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: بِكِنْوَتِي؛ بِالْوَاوِ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهِيَ بِمَعْنَاهَا، كَنَوْتُهُ وَكَنَّيْتُهُ بِمَعْنًى، قَالَ عِيَاضٌ: رَوَوْهُ كُلُّهُمْ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ بِالْيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْكُنْيَةِ وَالتَّعْرِيفُ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ فِي بَابِ كُنْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ أَنَسٌ) يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْبُيُوعِ ثُمَّ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِهَذَا، وَفِيهِ قِصَّةٌ سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَلَفْظُهُ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ ثُمَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ حَدِيثَ جَابِرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَاقْتَصَرَ فِيهِ على الْمَتْنُ، وَلَفْظُهُ كَحَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ - عَنْهُ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمُ، فَقَالُوا: لَا نُكَنِّيكَ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْهُ: فَقُلْنَا: لَا نَكْنِيكَ بِأَبِي الْقَاسِمِ وَلَا نُنَعِّمُكَ عَيْنًا. فَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ إِمَّا بِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ هَذَا وَبَعْضَهُمْ قَالَ هَذَا، وَإِمَّا أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَوَّلًا مُطْلَقًا ثُمَّ اسْتَدْرَكُوا فَقَالُوا: حَتَّى نَسْأَلَ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَيْضًا: فَقَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: فَقَالَ: سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ. وَقَوْلُهُ: لَا نَكْنِيكَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ التَّخْفِيفِ وَبِضَمِّهِ مَعَ التَّشْدِيدِ، وَنُنَعِّمُكَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتُلِفَ فِي التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبٍ:
الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَمْ لَا، ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَيَخْتَصُّ النَّهْيُ بِحَيَاتِهِ ﷺ.
وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا يَفْعَلُونَهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا إِطْبَاقُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْمَذْهَبِ الثَّانِي، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ أَنَّهُ ﷺ كَانَ فِي السُّوقِ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَمْ أَعْنِكَ، فَقَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي. قَالَ: فَفَهِمُوا مِنَ النَّهْيِ الِاخْتِصَاصَ بِحَيَاتِهِ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ زَالَ بَعْدَهُ ﷺ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهَذَا السَّبَبُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، فَمَا خَرَجَ صَاحِبُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَمِمَّا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّوَوِيَّ أَوْرَدَ الْمَذْهَبَ الثَّالِثَ مَقْلُوبًا فَقَالَ: يَجُوزُ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ بِهِ قَائِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبْقُ قَلَمٍ، وَقَدْ حَكَى الْمَذَاهِبَ الثَّلَاثَةَ فِي الْأَذْكَارِ عَلَى الصَّوَابِ، وَكَذَا هِيَ فِي الرَّافِعِيِّ. وَمِمَّا تَعَقَّبَهُ السُّبْكِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَجَّحَ مَنْعَ التَّكْنِيَةِ بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا، وَلِمَا ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي خُطْبَةِ الْمِنْهَاجِ كناه فَقَالَ: الْمُحَرِّرُ لِلْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الرَّافِعِيِّ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: لِلْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ فَقَطْ، أَوْ يُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ وَلَا يُكَنِّيهِ بِالْكُنْيَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُ الْمُصَنِّفُ مَنْعَهَا.
وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِ الرَّافِعِيِّ الْجَوَازَ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَهِرٌ بِذَلِكَ، وَمَنْ شُهِرَ بِشَيْءٍ لَمْ يَمْتَنِعْ تَعْرِيفُهُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ فَإِنَّهُ لَا يُسَوَّغُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ ابْنَهُ الْقَاسِمَ لِئَلَّا يَكُنَّى أَبَا الْقَاسِمِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ مَذْهَبًا رَابِعًا وَهُوَ الْمَنْعُ مِنِ التَّسْمِيَةِ بِمُحَمَّدٍ مُطْلَقًا، وَكَذَا التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدٍ: كَتَبَ عُمَرُ: لَا تُسَمُّوا أَحَدًا بِاسْمِ نَبِيٍّ، وَاحْتَجَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: يُسَمُّونَهُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ يَلْعَنُونَهُمْ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى أَيْضًا، وَسَنَدُهُ لَيِّنٌ. قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute