خَلَقَ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ جَعَلَ فِيهَا الْمَنَافِعَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا الْمَنَافِعَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تُصَلِّيَ) بِتَاءِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ بِالنُّونِ فِيهَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ أَوْجَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ثَابِتٍ بِلَفْظِ: إِنَّ عَلَيْنَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا: وَسَاقَ الْبَقِيَّةَ كَذَلِكَ. وَتَوْجِيهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى أُمَّتِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الِاخْتِصَاصِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالسَّرَخْسِيِّ: الصَّلَاةُ الْخَمْسُ بِالْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُفَرِّقُ صَدَقَتَهُ بِنَفْسِهِ.
قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَوْلُهُ: عَلَى فُقَرَائِنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ لِأَنَّهُمْ مُعْظَمُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ.
قَوْلُهُ: (آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا، وهو اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَرَجَّحَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَأَنَّهُ حَضَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مُسْتَثْبِتًا مِنَ الرَّسُولِ ﷺ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: فَإِنَّ رَسُولَكَ زَعَمَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: أَتَتْنَا كُتُبُكَ وَأَتَتْنَا رُسُلُكَ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْحَاكِمُ أَصْلَ طَلَبِ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ لِأَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ وَآمَنَ وَصَدَّقَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُشَافَهَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: آمَنْتُ إِنْشَاءً، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِقَوْلِهِ: زَعَمَ قَالَ: وَالزَّعْمُ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الزَّعْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ أَيْضًا كَمَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي شَرْحِ فَصِيحِ شَيْخِهِ ثَعْلَبٍ، وَأَكْثَرَ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: زَعَمَ الْخَلِيلُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ. وَأَمَّا تَبْوِيبُ أَبِي دَاوُدَ عَلَيْهِ: بَابُ الْمُشْرِكِ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَلَيْسَ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ ضِمَامًا قَدِمَ مُشْرِكًا بَلْ وَجْهُهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا شَخْصًا قَادِمًا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ قَوْلَهُ آمَنْتُ إِخْبَارٌ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ، بَلْ عَنْ عُمُومِ الرِّسَالَةِ وَعَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ إِنْشَاءً لَكَانَ طَلَبَ مُعْجِزَةٍ تُوجِبُ لَهُ التَّصْدِيقَ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ.
وَعَكَسَهُ الْقُرْطُبِيُّ فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ لِلرَّسُولِ وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ مُعْجِزَةٌ. وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ هَذِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فَقَالَ مُوسَى فِي رِوَايَتِهِ: وَإِنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟ قَالَ: صَدَقَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وهو فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ. وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا جَزَمَ بِهِ الْوَاقِدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ أَنَّ قُدُومَ ضِمَامٍ كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ فَيَكُونُ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ، لَكِنَّهُ غَلَطٌ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ قُدُومَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ النَّهْيِ فِي الْقُرْآنِ عَنْ سُؤَالِ الرَّسُولِ، وَآيَةُ النَّهْيِ فِي الْمَائِدَةِ وَنُزُولُهَا مُتَأَخِّرٌ جِدًّا.
ثَانِيهَا: أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمُعْظَمُهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ قَوْمَهُ أَوْفَدُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مُعْظَمُ الْوُفُودِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
رَابِعُهَا: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمَهُ أَطَاعُوهُ وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو سَعْدٍ - وهو ابْنُ بَكْرِ بْنُ هَوَازِنَ - فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بَعْدَ وَقْعَةِ حُنَيْنٍ وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ كَمَا سَيَأْتِي مَشْرُوحًا فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَالصَّوَابُ أَنَّ قُدُومَ ضِمَامٍ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَغَفَلَ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ صَحِيحَ مُسْلِمٍ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي) مَنْ مَوْصُولَةٌ وَرَسُولُ مُضَافٌ إِلَيْهَا، وَيَجُوزُ تَنْوِينُهُ وَكَسْرُ مَنْ لَكِنْ لَمْ تَأْتِ بِهِ الرِّوَايَةُ. وَوَقَعَ