وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهِ بِعِلْمِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ نَسِيَ مَا كَانَ وَقَعَ لَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: شَغَلَنِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ.
قُلْتُ: وَالصُّورَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِعُمَرَ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِمَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى، بَلِ اسْتَأْذَنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَرَجَعَ فَلَمَّا رَجَعَ فِي الثَّالِثَةِ اسْتُدْعِيَ فَأُذِنَ لَهُ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ فِيمَا قُلْتُهُ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْتُ طُرُقَهُ عِنْدَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا ادَّعَاهُ.
وَتَعَلَّقَ بِقِصَّةِ عُمَرَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ خَبَرَ أَبِي سَعِيدٍ الْمُطَابِقَ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ بِمُفْرَدِهِ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ وَجَهْلٌ بِمَذْهَبِ عُمَرَ، فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي مُوسَى: أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ لَا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قُلْتُ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ أَبَا مُوسَى. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ عُمَرُ، لِأَبِي مُوسَى: أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا آنِفًا: فَقَالَ عُمَرُ، لِأَبِي مُوسَى: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ لَأَمِينًا عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بُرْدَةَ حِينَ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، لِعُمَرَ: لَا تَكُنْ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ السَّهْوِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ بِمُفْرَدِهِ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا وَأَخْذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَثْبِتُ إِذَا وَقَعَ لَهُ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَضَرَ عِنْدَهُ مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ فَخَشِيَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَخْتَلِقُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ طَلَبًا لِلْمَخْرَجِ مِمَّا يَدْخُلُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَعْرِفْ أَبَا مُوسَى، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ قَوْلٌ خَرَجَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ مِنْ قَائِلِهِ وَلَا تَدَبُّرٍ، فَإِنَّ مَنْزِلَةَ أَبِي مُوسَى عِنْدَ عُمَرَ مَشْهُورَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتُلِفَ فِي طَلَبِ عُمَرَ مِنْ أَبِي مُوسَى الْبَيِّنَةَ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ فَذَكَرَهَا، وَغَالِبُهَا مُتَدَاخِلٌ، وَلَا تَزِيدُ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِالْخَبَرِ الْمَرْفُوعِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الثَّلَاثِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا لَمْ يُسْمَعْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ. وَرَوَى سَحْنُونٌ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقِيلَ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ الثَّلَاثِ لِلْإِبَاحَةِ وَالتَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسْتَأْذِنِ، فَمَنِ اسْتَأْذَنَ أَكْثَرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ قَالَ: الِاسْتِئْذَانُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ كَذَا قَالَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا اللَّفْظُ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِئْذَانِ لَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ آخَرَ أَعَادَ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ لَا يُعِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ فِي ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَسَلَّمْتُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي ثُمَّ سَلَّمْتُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَتَنَحَّيْتُ نَاحِيَةً فَخَرَجَ عَلَيَّ غُلَامٌ فَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ، فَقَالَ لِي أَبُو سَعِيدٍ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ زِدْتَ - يَعْنِي عَلَى الثَّلَاثِ - لَمْ يُؤْذَنْ لَكَ. وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ الثَّلَاثِ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْأُولَى إِعْلَامٌ، وَالثَّانِيَةُ مُؤَامَرَةٌ وَالثَّالِثَةُ عَزْمَةٌ، إِمَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّ.
قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ صَنِيعِ أَبِي مُوسَى حَيْثُ ذَكَرَ اسْمَهُ أَوَّلًا وَكُنْيَتَهُ ثَانِيًا وَنِسْبَتَهُ ثَالِثًا، أَنَّ الْأُولَى هِيَ الْأَصْلُ، وَالثَّانِيَةَ إِذَا جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْتَبَسَ عَلَى مَنِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثَةَ إِذَا