وَتَنْزِعُ ثِيَابَهُ وَتَقِفُ حَتَّى يَجْلِسَ، فَقَالَ: أَمَّا التَّلَقِّي فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا الْقِيَامُ حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا، فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ الْجَبَابِرَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ جَوَازُ إِطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَى الْخَيِّرِ الْفَاضِلِ، وَفِيهِ أَنَّ قِيَامَ الْمَرْءُوسِ لِلرَّئِيسِ الْفَاضِلِ وَالْإِمَامِ الْعَادِلِ وَالْمُتَعَلِّمِ لِلْعَالِمِ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمَنْ كَانَ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَمَعْنَى حَدِيثِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُقَامَ لَهُ أَيْ بِأَنْ يُلْزِمَهُمْ بِالْقِيَامِ لَهُ صُفُوفًا عَلَى طَرِيقِ الْكِبْرِ وَالنَّخْوَةِ.
وَرَجَّحَ الْمُنْذِرِيُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجَمْعِ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَأَنَّ الْقِيَامَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْقِيَّمِ فِي حَاشِيَةِ السُّنَنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ سِيَاقَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ الْقِيَامَ لَهُ لَمَّا خَرَجَ تَعْظِيمًا، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُقَالُ لَهُ الْقِيَامُ لِلرَّجُلِ وَإِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ أَوْ عِنْدَ الرَّجُلِ، قَالَ: وَالْقِيَامُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: قِيَامٌ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ وَهُوَ فِعْلُ الْجَبَابِرَةِ، وَقِيَامٌ إِلَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيَامٌ لَهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ.
قُلْتُ: وَوَرَدَ فِي خُصُوصِ الْقِيَامِ عَلَى رَأْسِ الْكَبِيرِ الْجَالِسِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُمْ عَظَّمُوا مُلُوكَهُمْ بِأَنْ قَامُوا وَهُمْ قُعُودٌ. ثُمَّ حَكَى الْمُنْذِرِيُّ قَوْلَ الطَّبَرِيِّ، وَأَنَّهُ قَصَرَ النَّهْيَ عَلَى مَنْ سَرَّهُ الْقِيَامُ لَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ التَّعَاظُمِ وَرُؤْيَةِ مَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي تَرْجِيحُ النَّوَوِيِّ لِهَذَا الْقَوْلِ.
ثُمَّ نَقَلَ الْمُنْذِرِيُّ عَنْ بَعْضِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَنَّهُ رَدَّ الْحُجَّةَ بِقِصَّةِ سَعْدٍ بِأَنَّهُ ﷺ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ لِسَعْدٍ لِيُنْزِلُوهُ عَنِ الْحِمَارِ لِكَوْنِهِ كَانَ مَرِيضًا، قَالَ: وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، قُلْتُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى مُسْتَنَدِ هَذَا الْقَائِلِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْهَا فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَجِيئِهِ مُطَوَّلًا وَفِيهِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَلَمَّا طَلَعَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، فَأَنْزَلُوهُ.
وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَخْدِشُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِقِصَّةِ سَعْدٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَامِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ الْقِيَامِ وَنَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمُ احْتَجُّوا بِهِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: لَا أَعْلَمُ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ حَدِيثًا أَصَحَّ مِنْ هَذَا، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: لَوْ كَانَ الْقِيَامُ الْمَأْمُورُ بِهِ لِسَعْدٍ هُوَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَمَا خَصَّ بِهِ الْأَنْصَارَ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي أَفْعَالِ الْقُرْبِ التَّعْمِيمُ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ لِسَعْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَكَانَ هُوَ ﷺ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَا فَعَلَهُ وَلَا فَعَلُوهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ لِغَيْرِ مَا وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيُنْزِلُوهُ عَنْ دَابَّتِهِ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمَرَضِ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَبِيلَةَ تَخْدِمُ كَبِيرَهَا فَلِذَلِكَ خَصَّ الْأَنْصَارَ بِذَلِكَ دُونَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ لَا كُلُّهُمْ وَهُمُ الْأَوْسُ مِنْهُمْ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ كَانَ سَيِّدَهُمْ دُونَ الْخَزْرَجِ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ الْقِيَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ لِلْإِعَانَةِ فَلَيْسَ هُوَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ، بَلْ لِأَنَّهُ غَائِبٌ قَدِمَ، وَالْقِيَامُ لِلْغَائِبِ إِذَا قَدِمَ مَشْرُوعٌ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا هُوَ لِتَهْنِئَتِهِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ تَحْكِيمِهِ وَالرِّضَا بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، وَالْقِيَامُ لِأَجْلِ التَّهْنِئَةِ مَشْرُوعٌ أَيْضًا.
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ أَنَّ الْقِيَامَ يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَحْظُورٌ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَعَاظُمًا عَلَى الْقَائِمِينَ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: مَكْرُوهٌ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ لِمَنْ لَا يَتَكَبَّرُ وَلَا يَتَعَاظَمُ عَلَى الْقَائِمِينَ، ولَكِنْ يَخْشَى أَنْ يَدْخُلَ نَفْسَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَحْذَرُ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْجَبَابِرَةِ. وَالثَّالِثُ: جَائِزٌ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ مَعَهُ التَّشَبُّهَ بِالْجَبَابِرَةِ. وَالرَّابِعُ: مَنْدُوبٌ وَهُوَ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَرَحًا بِقُدُومِهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَى مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute