الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ وَقَالَ: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾، ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ وَقَالَ: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ حُكمَاءَ فُقَهَاءَ، وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْعِلْمِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فَلَا يُعْتَبَرَانِ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ مُصَحِّحٌ لِلنِّيَّةِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْعَمَلِ، فَنَبَّهَ الْمُصَنِّفٌ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعِلْمَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا بِالْعَمَلِ تَهْوِينُ أَمْرِ الْعِلْمِ وَالتَّسَاهُلُ فِي طَلَبِهِ.
قَوْلُهُ: (فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ) أَيْ: حَيْثُ قَالَ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ﴾ ثُمَّ قَالَ ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِأُمَّتِهِ. وَاسْتَدَلَّ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَاهَا فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِ فَقَالَ: اعْلَمْ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَمَلِ؟ وَيُنْتَزَعُ مِنْهَا دَلِيلُ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ ; لَكِنَّ النِّزَاعَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ فِي إِيجَابِ تَعَلُّمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْقَوَانِينِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ) بِفَتْحِ أَنَّ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَمِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ: وَافِرٍ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَحَسَّنَهُ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ، وَضَعَّفَهُ عِنْدَهُمْ بِاضْطِرَابٍ فِي سَنَدِهِ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ يَتَقَوَّى بِهَا، وَلَمْ يُفْصِحِ الْمُصَنِّفُ بِكَوْنِهِ حَدِيثًا، فَلِهَذَا لَا يُعَدُّ فِي تَعَالِيقِهِ، لَكِنْ إِيرَادُهُ لَهُ فِي التَّرْجَمَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَشَاهِدُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ، فَلَهُ حُكْمُهُ فِيمَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَرَّثُوا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيِ: الْأَنْبِيَاءُ. وَيُرْوَى بِتَخْفِيفِهَا مَعَ الْكَسْرِ أَيِ: الْعُلَمَاءُ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ فِيهِ: وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ.
قَوْلُهُ: (بِحَظٍّ) أَيْ: نَصِيبٍ (وَافِرٍ) أَيْ: كَامِلٍ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا) هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْضًا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ غَيْرِ هَذَا، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ. قَالَ: وَلَمْ يُقَلْ لَهُ: صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ الْأَعْمَشَ دَلَّسَ فِيهِ، فَقَالَ: حَدَّثْتُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ. قُلْتُ: لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ فَانْتَفَتْ تُهْمَةُ تَدْلِيسِهِ.
قَوْلُهُ: (طَرِيقًا) نَكَّرَهَا وَنَكَّرَ عِلْمًا لِيتَنَاوُلِ أَنْوَاعِ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَلِيَنْدَرِجَ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ.
قَوْلُهُ: (سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا) أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ بِتَسْهِيلِ الْعِلْمِ عَلَى طَالِبِهِ، لِأَنَّ طَلَبَهُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ ﷿، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِقَوْلِ اللَّهِ ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ﴾ أَيْ: يَخَافُ مِنَ اللَّهِ مَنْ