عَلِمَ قُدْرَتَهُ وَسُلْطَانَهُ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا﴾ أَيِ الْأَمْثَالَ الْمَضْرُوبَةَ.
قَوْلُهُ: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ﴾ أَيْ: سَمْعَ مَنْ يَعِي وَيَفْهَمُ ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ، وَهَذِهِ أَوْصَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَالْمَعْنَى لَوْ كُنَّا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَعَلِمْنَا مَا يَجِبُ عَلَيْنَا فَعَمِلْنَا بِهِ فَنَجَوْنَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: يُفَهِّمْهُ بِالْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مِيمٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ بَعْدَ هَذَا بِبَابَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا اللَّفْظُ الثَّانِي فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَالْفِقْهُ هُوَ الْفَهْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ أَيْ: لَا يَفْهَمُونَ، وَالْمُرَادُ: الْفَهْمُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) هُوَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَيْضًا، أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَعَلَّمُوا، إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ مُبْهَمًا اعْتُضِدَ بِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَرَوَى الْبَزَّارُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ مَرْفُوعًا. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَغَيْرِهِ. فَلَا يَغْتَرُّ بِقَوْلِهِ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْعِلْمُ الْمُعْتَبَرُ إِلَّا الْمَأْخُوذَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَلُّمِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ إِلَخْ) هَذَا التَّعْلِيقُ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ - يَعْنِي مَالِكَ بْنَ مَرْثَدٍ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ذَرٍّ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَوَقَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْفُتْيَا؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَرَقِيبٌ أَنْتَ عَلَيَّ؟ لَوْ وَضَعْتُمْ. . فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَرُوِّينَاهُ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِيَ خَاطَبَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ الَّذِي نَهَاهُ عَنِ الْفُتْيَا عُثْمَانُ ﵁. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: نَزَلَتْ فِيهِمْ وَفِينَا. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَحَصَلَتْ مُنَازَعَةٌ أَدَّتْ إِلَى انْتِقَالِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ الْمَدِينَةِ فَسَكَنَ الرَّبَذَةَ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - إِلَى أَنْ مَاتَ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ لَا يَرَى بِطَاعَةِ الْإِمَامِ إِذَا نَهَاهُ عَنِ الْفُتْيَا ; لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَعَلَّهُ أَيْضًا سَمِعَ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ، وَسَيَأْتِي لِعَلِيٍّ مَعَ عُثْمَانَ نَحْوُهُ. وَالصَّمْصَامَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ هُوَ السَّيْفُ الصَّارِمُ الَّذِي لَا يَنْثَنِي، وَقِيلَ: الَّذِي لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (هَذِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى الْقَفَا، وَهُوَ يُذَّكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَأُنْفِذُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: أُمْضِيَ، وَتُجِيزُوا بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْيَاءِ زَايٌ، أَيْ: تُكْمِلُوا قَتْلِي، وَنَكَّرَ كَلِمَةً لِيَشْمَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ. وَالْمُرَادُ بِهِ يُبَلِّغُ مَا تَحَمَّلَهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا يَنْتَهِي عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلِ. وَلَوْ فِي كَلَامِهِ لِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَاحَظَ الِامْتِنَاعُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ الْإِنْفَاذَ حَاصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ وَضْعِ الصَّمْصَامَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ حُصُولِهِ أَوْلَى، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَاحْتِمَالُ الْمَشَقَّةِ فِيهِ وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى طَلَبًا لِلثَّوَابِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالْخَطِيبُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ حَسَنٍ. وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّبَّانِيَّ بِأَنَّهُ الْحَكِيمُ الْفَقِيهُ، وَوَافَقَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِهِ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ الرَّبَّانِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّبِّ أَيْ: الَّذِي يَقْصِدُ مَا أَمَرَهُ الرَّبُّ بِقَصْدِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: قِيلَ لِلْعُلَمَاءِ رَبَّانِيُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ الْعِلْمَ أَيْ: يَقُومُونَ بِهِ، وَزِيدَتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute