بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقًا حَتَّى يَدْخُلَ اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ التِّينِ، فَنَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَنَّ مَنْ أَقَرَّ ثُمَّ اسْتَثْنَى عَمِلَ بِاسْتِثْنَائِهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا وَاحِدٌ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ، فَقَالَ: ذَهَبَ إِلَى هَذَا فِي الْإِقْرَارِ جَمَاعَةٌ. وَأَمَّا نَقْلُ الِاتِّفَاقِ فَمَرْدُودٌ، فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ حَتَّى فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ مِنْهُمْ: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثِنْتَيْنِ، وَقَعَ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ. وَنَقَلَ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ مِنَ الْقَلِيلِ، وَمِنْ لَطِيفِ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّ مَنْ قَالَ: صُمْتُ الشَّهْرَ إِلَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، يُسْتَهْجَنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ إِلَّا يَوْمًا وَالْيَوْمُ لَا يُسَمَّى شَهْرًا، وَكَذَا مَنْ قَالَ: لَقِيتُ الْقَوْمَ جَمِيعًا إِلَّا بَعْضَهَمْ، وَيَكُونُ مَا لَقِيَ إِلَّا وَاحِدًا.
قُلْتُ: وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْإِطَالَةِ فِيهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَدَدِ: هَلِ الْمُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ أَوْ أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنِ اخْتَصَّتْ هَذِهِ بِأَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الثَّانِي، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حَصْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لَا الْإِخْبَارُ بِحَصْرِ الْأَسْمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ﷺ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ وَعِنْدَ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي دُعَاءِ وَأَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَأَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا دَعَتْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَذَا الْعَدَدِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعُ مَا عَدَاهَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا لِلتَّخْصِيصِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ الْأَسْمَاءِ وَأَبْيَنَهَا مَعَانِيَ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ قَوْلُهُ: مَنْ أَحْصَاهَا لَا قَوْلُهُ لِلَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لِزَيْدٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَعَدَّهَا لِلصَّدَقَةِ، أَوْ لِعَمْرٍو مِائَةُ ثَوْبٍ مَنْ زَارَهُ أَلْبَسَهُ إِيَّاهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ نَحْوَ ذَلِكَ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا هَذِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ أَنَّ أَكْثَرَهَا صِفَاتٌ وَصِفَاتُ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَيُدْعَى بِهَا وَلَا يُدْعَى بِغَيْرِهَا، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ الدُّعَاءُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهِيَ إِمَّا ثُبُوتِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ كَالْحَيِّ، أَوْ إِضَافِيَّةٌ كَالْعَظِيمِ، وَإِمَّا سَلْبِيَّةٌ كَالْقُدُّوسِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ كَالْقَدِيرِ، أَوْ مِنْ سَلْبِيَّةٍ إِضَافِيَّةٍ كَالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ سَلْبِيَّةٍ، كَالْمَلِكِ. وَالسُّلُوبُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِلَا نِهَايَةٍ، قَادِرٌ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ اسْمٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا نِهَايَةَ لِأَسْمَائِهِ.
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَلْفَ اسْمٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا قَلِيلٌ فِيهَا. وَنَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ اسْمٍ، اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ أَلْفٍ مِنْهَا، وَأَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ بِالْبَقِيَّةِ، وَالْأَنْبِيَاءَ بِأَلْفَيْنِ مِنْهَا، وَسَائِرَ النَّاسِ بِأَلْفٍ. وَهَذِهِ دَعْوى تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي نَفْسِ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي سُرِدَتْ فِيهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute