ذَهَبًا فَصَارَتْ بِبِنَائِهَا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ جَارِيَةً مَجْرَى صَارَ فِي رَفْعِ الْمُبْتَدَأِ وَنَصْبِ الْخَبَرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُتَّحِدُ الْمَخْرَجِ فَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: مِثْلُ أُحُدٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: تَحَوَّلَ لِي أُحُدٌ يحَمْلِ الْمِثْلِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ وَزْنُهُ مِنَ الذَّهَبِ وَزْنَ أُحُدٍ، وَالتَّحْوِيلُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَلَبَ ذَهَبًا كَانَ قَدْرَ وَزْنِهِ أَيْضًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ رُوَاتِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا: فَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَمَنْصُورٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْتُ أُحُدٌ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّهُ ذَهَبَ قَطْعًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَدَعُ مِنْهُ قِيرَاطًا، وَفِي رِوَايَةِ سُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ. وَاخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٍ) أَيْ لَيْلَةٌ ثَالِثَةٌ، قِيلَ: وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالثَّلَاث؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ تَفْرِيقُ قَدْرِ أُحُدٍ مِنَ الذَّهَبِ فِي أَقَلَّ مِنْهَا غَالِبًا، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الثَّلَاثَةُ أَقْصَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَفْرِقَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَالْوَاحِدَةُ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ)؛ أَيْ أَعُدُّهُ أَوْ أَحْفَظُهُ، وَهَذَا الْإِرْصَادُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ دَيْنٍ غَائِبٍ حَتَّى يَحْضُرَ فَيَأْخُذَهُ، أَوْ لِأَجْلِ وَفَاءِ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ حَتَّى يَحِلَّ فَيُوَفَّى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَأَبِي شِهَابٍ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ: إِلَّا دِينَارٌ بِالرَّفْعِ، وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ جَائِزَانِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُطْلَقٌ عَامٌّ، وَالْمُسْتَثْنَى مُقَيَّدٌ خَاصٌّ فَاتَّجَهَ النَّصْبُ، وَتَوْجِيهُ الرَّفْعِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَجَوَابُ لَوْ هُنَا فِي تَقْدِيرِ النَّفْيِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ النَّفْيُ الصَّرِيحُ فِي أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَى حَمْلِ إِلَّا عَلَى الصِّفَةِ، وَقَدْ فُسِّرَ الشَّيْءُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالدِّينَارِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَمَنْصُورٍ: أَدَعُ مِنْهُ قِيرَاطًا.
قَالَ قُلْتُ: قِنْطَارًا؟ قَالَ: قِيرَاطًا، وَفِيهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّمَا أَقُولُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَحْنَفِ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَظَاهِرُهُ نَفْيُ مَحَبَّةِ حُصُولِ الْمَالِ وَلَوْ مَعَ الْإِنْفَاقِ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى نَفْيُ إِنْفَاقِ الْبَعْضِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، فَهُوَ يُحِبُّ إِنْفَاقَ الْكُلِّ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى، وَسَائِرُ الطُّرُقِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدَكُمْ هَذَا ذَهَبًا أُنْفِقُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَمُرُّ بِي ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْءٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ الْإِنْفَاقُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ مَحْبُوبٌ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ) هُوَ اسْتِثْنَاءٌ بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ فَيُفِيدُ الْإِثْبَاتَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ نَفْيَ مَحَبَّةِ الْمَالِ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ فَيَلْزَمُ مَحَبَّةُ وُجُودِهِ مَعَ الْإِنْفَاقِ، فَمَا دَامَ الْإِنْفَاقُ مُسْتَمِرًّا لَا يُكْرَهُ وُجُودُ الْمَالِ، وَإِذَا انْتَفَى الْإِنْفَاقُ ثَبَتَتْ كَرَاهِيَةُ وُجُودِ الْمَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَرَاهِيَةِ حُصُولِ شَيْءٍ آخَرَ وَلَوْ كَانَ قَدْرَ أُحُدٍ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْإِنْفَاقِ.
قَوْلُهُ: (هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى ثَلَاثٍ، وَحُمِلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هِيَ الْأَصْلُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الرُّوَاةِ، وَأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ الْبُشْرَانِيَّاتِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُلَاعِبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَرَانَا بِيَدِهِ، كَذَا فِيهِ بِإِثْبَاتِ الْأَرْبَعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ مِثْلَهُ، لَكِنِ اقْتَصَرَ مِنَ الْأَرْبَعِ عَلَى ثَلَاثٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ بَحْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، فَاقْتَصَرَ عَلَى ثِنْتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَشَى ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ