بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَكْنِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، كَأَنْ يَكُونُ أَشْهَرَ مِنِ اسْمِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ اسْمُهُ مُشْتَرِكًا بِغَيْرِهِ وَكُنْيَتُهُ فَرْدَةٌ. وَفِيهِ جَوَازُ تَفْدِيَةِ الْكَبِيرِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهَا وَالْجَوَابُ بِمِثْلِ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ زِيَادَةٌ فِي الْأَدَبِ. وَفِيهِ الِانْفِرَادُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ.
وَفِيهِ أَنَّ امْتِثَالَ أَمْرِ الْكَبِيرِ وَالْوُقُوفَ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنِ ارْتِكَابِ مَا يُخَالِفُهُ بِالرَّأْيِ وَلَوْ كَانَ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الرَّأْيُ تَوَهُّمُ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ؛ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى. وَفِيهِ اسْتِفْهَامُ التَّابِعِ مِنْ مَتْبُوعِهِ عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ أَوْ عِلْمِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَفِيهِ الْأَخْذُ بِالْقَرَائِنِ؛ لِأَنَّ أَبَا ذَرٍّ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: أَتُبْصِرُ أُحُدًا فَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُرْسِلَهُ فِي حَاجَةٍ فَنَظَرَ إِلَى مَا عَلى أُحُدٍ مِنَ الشَّمْسِ؛ لِيَعْلَمَ هَلْ يَبْقَى مِنَ النَّهَارِ قَدْرٌ يَسْعُهَا.
وَفِيهِ أَنَّ مَحَلَّ الْأَخْذِ بِالْقَرِينَةِ إِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يُخَصِّصُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ أَبُو ذَرٍّ مِنَ الْقَرِينَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْقَرَائِنِ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى الْمُرَادِ وَذَلِكَ لِضَعْفِهِ.
وَفِيهِ الْمُرَاجَعَةُ فِي الْعِلْمِ بِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ الطَّالِبِ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ مِنَ الْآيَاتِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي وَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ وَبِالْعَذَابِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ دَخَلَ الْجَنَّةَ اسْتَفْهَمَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَاتَيْنِ الْكَبِيرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْمِثَالَيْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَلِلْإِشَارَةُ إِلَى فُحْشِ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى خَلَلِ الْعَقْلِ الَّذِي شَرُفَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى الْبَهَائِمِ، وَبِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهِ قَدْ يَزُولُ التَّوَقِّي الَّذِي يَحْجِزُ عَنِ ارْتِكَابِ بَقِيَّةِ الْكَبَائِرِ.
وَفِيهِ أَنَّ الطَّالِبَ إِذَا أَلَحَّ فِي الْمُرَاجَعَةِ يُزْجَرُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ؛ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ حَمَلَهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا مَضَى فِي اللِّبَاسِ عَلَى مَنْ تَابَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ الْمُجَازَاةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ وَفْقُ مَا فَهِمَهُ أَبُو ذَرٍّ، وَالثَّانِي: أَوْلَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِمَا مَرَّ مِنْ سِيَاقِ كَعْبِ بْنِ ذُهْلٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ عَمِلَ سُوءًا أَوْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.
وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَخَصَّ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِقولِهِ فِيهِ: بَشِّرْ أُمَّتَكُ وَإِنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي، وَتُعُقِّبَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُعَذَّبُونَ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي الْحَدِيثَ. وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَفِي بَعْضِهَا: حُرِّمَ عَلَى النَّارِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ ذِكْرُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فِيهِ فَذُكِرَ عَلَى خِلَافِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَحَمَلَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ الْكَلِمَةَ وَأَدَّى حَقَّهَا بِأَدَاءِ مَا وَجَبَ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى، وَرَجَّحَهُ الطِّيبِيُّ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَخْدِشُ فِيهِ.
وَأَشْكَلُ الْأَحَادِيثِ وَأَصْعَبُهَا قَوْلُهُ: لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِي آخِرِهِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَقِيلَ: أَشْكَلُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: مَا مِنْ عَبْدِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى فِيهِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، وَمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةَ، وَصَرَّحَ بِتَحْرِيمِ النَّارِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: دَخَلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي دُخُولَ النَّارِ أَوَّلًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: لَكِنَّ الْأَوَّلَ يَتَرَجَّحُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَةً، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ تَتْمِيمًا لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْحَدِيثِ الْآخَرُ مُطْلَقٌ يَقْبَلُ التَّقْيِيدَ فَلَا يُقَاوِمُ قَوْلَهُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ