الْفَقْرُ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا دَخَلُوا بِصَلَاحِهِمْ مَعَ الْفَقْرِ، فَإِنَّ الْفَقِيرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لَا يَفْضُلُ.
قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّحْرِيضُ عَلَى تَرْكِ التَّوَسُّعِ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ فِيهِ تَحْرِيضَ النِّسَاءِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ؛ لِئَلَّا يَدْخُلْنَ النَّارَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ: تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ: بِمَ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرُونَ بِالْإِحْسَانِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَرْكُهُ ﵊ الْأَكْلَ عَلَى الْخِوَانِ وَأَكْلَ الْمُرَقَّقِ إِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا اخْتِيَارًا لِطَيِّبَاتِ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ، وَالْمَالُ إِنَّمَا يُرْغَبُ فِيهِ لِيُسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الْآخِرَةِ، فَلَمْ يَحْتَجِ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى، بَلْ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْقَنَاعَةِ وَالْكَفَافِ وَعَدَمِ التَّبَسُّطِ فِي مَلَاذِّ الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ كَرِيمًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو شَيْبَةَ جَدُّهُ لِأَبِيهِ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمَ، أَصْلُهُ مِنْ وَاسِطَ، وَسَكَنَ الْكُوفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ، وَقَدْ أَكْبرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ، وَكَذَا مُسْلِمٌ لَكِنْ مُسْلِمٌ يُكَنِّيهِ دَائِمًا، وَالْبُخَارِيُّ يُسَمِّيهِ وَقَلَّ أَنْ كَنَّاهُ.
قَوْلُهُ: (وَمَا فِي بَيْتِي شَيْءٌ إِلَخْ) لَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَصَايَا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيِّ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالشَّيْءِ الْمَنْفِيِّ مَا تَخَلَّفَ عَنْهُ مِمَّا كَانَ يَخْتَصُّ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ، فَكَانَ بَقِيَّةَ نَفَقَتِهَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا فَلَمْ يَتَّحِدِ الْمَوْرِدَانِ.
قَوْلُهُ: (يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ) شَمِلَ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ وَانْتَفَى جَمِيعُ الْمَأْكُولَاتِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ) الْمُرَادُ بِالشَّطْرِ هُنَا الْبَعْضُ، وَالشَّطْرُ يُطْلَقُ عَلَى النِّصْفِ وَعَلَى مَا قَارَبَهُ وَعَلَى الْجِهَةِ وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا، وَيُقَالُ: أَرَادَتْ نِصْفَ وَسْقٍ.
قَوْلُهُ: (فِي رَفٍّ لِي) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّفُّ شِبْهُ الطَّاقِ فِي الْحَائِطِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الرَّفُّ خَشَبٌ يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ فِي الْبَيْتِ يُوضَعُ فِيهِ مَا يُرَادُ حِفْظُهُ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِلْمُرَادِ.
قَوْلُهُ: (فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ) بِكَسْرِ الْكَافِ (فَفَنِيَ)؛ أَيْ فَرَغَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْأَخْذِ مِنَ الْعَيْشِ بِالِاقْتِصَادِ وَمَا ي سُدُّ الْجَوْعَةَ. قُلْتُ: إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُؤْثِرُ بِمَا عِنْدَهُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا مِنْ تَمْرٍ وَغَيْرِهِ يَدَّخِرُ قُوتَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى -، ثُمَّ كَانَ مَعَ ذَلِكَ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ طَارِئٌ، أَوْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ يُشِيرُ عَلَى أَهْلِهِ بِإِيثَارِهِمْ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى نَفَادِ مَا عِنْدَهُمْ أَوْ مُعْظَمِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَلَوْ شِئْنَا لَشَبِعْنَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهَا: فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ الْمَكِيلَ يَكُونُ فَنَاؤُهُ مَعْلُومًا لِلْعِلْمِ بِكَيْلِهِ، وَأَنَّ الطَّعَامَ غَيْرَ الْمَكِيلِ فِيهِ الْبَرَكَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِقْدَارُهُ قُلْتُ: فِي تَعْمِيمِ كُلِّ الطَّعَامِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ لِعَائِشَةَ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي أَذْكُرُهُ آخِرَ الْبَابِ، وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مِزْوَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِتَمَرَاتٍ فَقُلْتُ: ادْعُ لِي فِيهِنَّ