للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَاسْتَأْثَرَ بِالْبَقَاءِ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا رَدَدْتُ رُسُلِي فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرْدِيدِي إِيَّاهُمْ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا رَوي فِي قِصَّةِ مُوسَى وَمَا كَانَ مِنْ لَطْمَةِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَتَرَدُّدِهِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ: وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَطْفُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَلُطْفُهُ بِهِ وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ صِفَةِ الْفِعْلِ بِصِفَةِ الذَّاتِ، أَيْ عَنِ التَّرْدِيدِ بِالتَّرَدُّدِ، وَجَعَلَ مُتَعَلَّقَ التَّرْدِيدِ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْعَبْدِ مِنْ ضَعْفٍ وَنَصَبٍ إِلَى أَنْ تَنْتَقِلَ مَحَبَّتُهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَى مَحَبَّتِهِ لِلْمَوْتِ فَيُقْبَضُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مِنَ الرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّةِ لِلِقَائِهِ مَا يَشْتَاقُ مَعَهُ إِلَى الْمَوْتِ، فَضْلًا عَنْ إِزَالَةِ الْكَرَاهَةِ عَنْهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُوءُهُ، وَيَكْرَهُ اللَّهُ مُسَاءَتَهُ فَيُزِيلُ عَنْهُ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ وَهُوَ لَهُ مُؤْثِرٌ وَإِلَيْهِ مُشْتَاقٌ. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ مِثْلَ تَفَكَّرَ وَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ وَدَبَّرَ وَتَهَدَّدَ وَهَدَّدَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكِيبُ الْوَلِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعِيشَ خَمْسِينَ سَنَةً وَعُمُرُهُ الَّذِي كُتِبَ لَهُ سَبْعُونَ، فَإِذَا بَلَغَهَا فَمَرِضَ دَعَا اللَّهَ بِالْعَافِيَةِ فَيُحْيِيهِ عِشْرِينَ أُخْرَى مَثَلًا، فَعَبَّرَ عَنْ قَدْرِ التَّرْكِيبِ وَعَمًّا انْتَهَى إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَجَلِ الْمَكْتُوبِ بِالتَّرَدُّدِ. وَعَبَّرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ التَّرَدُّدَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ الرُّوحَ، وَأَضَافَ الْحَقُّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَرَدُّدَهُمْ عَنْ أَمْرِهِ. قَالَ: وَهَذَا التَّرَدُّدُ يَنْشَأُ عَنْ إِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أُمِرَ الْمَلَكُ بِالْقَبْضِ كَيْفَ يَقَعُ مِنْهُ التَّرَدُّدُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِيمَا لم يُحَدُّ لَهُ فِيهِ الْوَقْتُ.

كَأَنْ يُقَالَ: لَا تَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ، ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا: وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّرَدُّدِ اللُّطْفَ بِهِ، كَأَنَّ الْمَلَكَ يُؤَخِّرُ الْقَبْضَ، فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى قَدْرِ الْمُؤْمِنِ وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا احْتَرَمَهُ فَلَمْ يَبْسُطْ يَدَهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا ذَكَرَ أَمْرَ رَبِّهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنِ امْتِثَالِهِ.

وَجَوَابًا رَابِعًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لَنَا بِمَا نَعْقِلُ، وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. فَكَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَ وَلَدَهُ تَأْدِيبًا فَتَمْنَعُهُ الْمَحَبَّةُ وَتَبْعَثُهُ الشَّفَقَةُ فَيَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْوَالِدِ كَالْمُعَلَّمِ لَمْ يَتَرَدَّدْ، بَلْ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى ضَرْبِهِ لِتَأْدِيبِهِ، فَأُرِيدَ تَفْهِيمُنَا تَحْقِيقَ الْمَحَبَّةِ لِلْوَلِيِّ بِذِكْرِ التَّرَدُّدِ. وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ احْتِمَالًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ بِالتَّأَنِّي وَالتَّدْرِيجِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ كُنْ سَرِيعًا دَفْعَةً.

قَوْلُهُ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ زَادَ ابْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ كَرَامَةَ فِي آخِرِهِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ وَهْبٍ، وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ عَنِ الْجُنَيْدِ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ قَالَ: الْكَرَاهَةُ هُنَا لِمَا يَلْقَى الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمَوْتِ وَصُعُوبَتِهِ وَكَرْبِهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنِّي أَكْرَهُ لَهُ الْمَوْتُ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يُورِدُهُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ انْتَهَى.

وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ مَقْضِيٌّ، وَهُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ، وَلَا تَحْصُلُ غَالِبًا إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيمٍ جِدًّا، كَمَا جَاءَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِلَ وَهُوَ يَمُوتُ فَقَالَ: كَأَنِّي أَتَنَفَّسُ مِنْ خُرْمِ إِبْرَةٍ، وَكَأَنَّ غُصْنَ شَوْكٍ يَجُرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عَنِ الْمَوْتِ فَوَصَفَهُ بِنَحْوِ هَذَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَاللَّهُ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ أَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْكَرَاهَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمُسَاءَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَتَنَكُّسِ الْخَلْقِ وَالرَّدِّ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ.

وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَكْرَهَ مُكْرَهَهُ الْمَوْتَ فَلَا أُسْرِعُ بِقَبْضِ رُوحِهِ، فَأَكُونُ كَالْمُتَرَدِّدِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَطَاءٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِظَمُ قَدْرِ الْوَلِيِّ لِكَوْنِهِ خَرَجَ عَنْ تَدْبِيرِهِ إِلَى تَدْبِيرِ رَبِّهِ، وَعَنِ انْتِصَارِهِ لِنَفْسِهِ إِلَى انْتِصَارِ اللَّهِ لَهُ، وَعَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِصِدْقِ تَوَكُّلِهِ. قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِإِنْسَانٍ آذَى وَلِيًّا ثُمَّ لَمْ يُعَاجَلْ بِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ