بَعْدَكَ أَيْ لَمْ يَمُوتُوا عَلَى ظَاهِرِ مَا فَارَقْتَهُمْ عَلَيْهِ.
قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: وَعَلَى هَذَا فَيَذْهَبُ عَنْهُمُ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ وَيُطْفَأُ نُورُهُمْ، وَقِيلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِمُ السِّيمَا، بَلْ يُنَادِيهِمْ لِمَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِدُخُولِ هَؤُلَاءِ النَّارَ لِجَوَازِ أَنْ يُذَادُوا عَنِ الْحَوْضِ أَوَّلًا عُقُوبَةً لَهُمْ ثُمَّ يُرْحَمُوا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ غُرَّةٌ وَتَحْجِيلٌ فَعَرَفَهُمْ بِالسِّيمَا سَوَاءٌ كَانُوا فِي زَمَنِهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَرَجَّحَ عِيَاضٌ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَا قَالَ قَبِيصَةُ رَاوِي الْخَبَرِ: إِنَّهُمْ مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَهُ ﷺ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ لَهُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمُ السِّيمَا؛ لِأَنَّهَا كَرَامَةٌ يَظْهَرُ بِهَا عَمَلُ الْمُسْلِمِ، وَالْمُرْتَدُّ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَقَدْ يَكُونُ عَرَفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ لَا بِصِفَتِهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ارْتِدَادِهِمْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَنْ كَانَ فِي زَمَنِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تِلْكَ السِّيمَا فَمَنْ عَرَفَ صُورَتَهُ نَادَاهُ مُسْتَصْحِبًا لِحَالِهِ الَّتِي فَارَقَهُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا دُخُولُ أَصْحَابِ الْبِدَعِ فِي ذَلِكَ فَاسْتُبْعِدَ لِتَعْبِيرِهِ فِي الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: أَصْحَابِي وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ إِنَّمَا حَدَثُوا بَعْدَهُ، وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الصُّحْبَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَاسْتُبْعِدَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ مُبْتَدِعًا سُحْقًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِمَنْ
عَلِمَ أَنَّهُ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، ثُمَّ يَنْجُو بِالشَّفَاعَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ سُحْقًا تَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ مَعَ بَقَاءِ الرَّجَاءِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَيْسَ قَوْلُهُ مُرْتَدِّينَ نَصًّا فِي كَوْنِهِمُ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُرْتَدُّونَ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ يُبَدِّلُونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِالسَّيِّئَةِ انْتَهَى، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَ حَدِيثًا فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَإِذَا جِئْتُمْ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فَأَقُولُ: أَمَّا النَّسَبُ فَقَدْ عَرَفْتُهُ، وَلَعَلَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ بَعْدِي، وَارْتَدَدْتُمْ، وَلِأَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَسَأَذْكُرُ فِي آخِرِ بَابِ صِفَةِ النَّارِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى شَرْحِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
بَعْضٍ؟ فَقَالَ: الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ؛ هُوَ الْقُشَيْرِيُّ يُكَنَّى أَبَا يُونُسَ، وَأَبُوهُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَزْنُ كَبِيرَةٍ، وَضِدُّهَا وَاسْمُهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً؛ كَذَا فِيهِ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ مُشَاةً وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ بِلَفْظِ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ - عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ - قُلْنَا وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ زِيَادَةٌ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ، عَنْ حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَائِشَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: حُفَاةً عُرَاةً، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ سَنَدُهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ.
قَوْلُهُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ فِيهِ أَنَّ النِّسَاءَ يَدْخُلْنَ فِي الضَّمِيرِ الْمُذَكَّرِ الْآتِي بِالْوَاوِ، وَكَأَنَّهُ بِالتَّغْلِيبِ كَمَا فِي قَوْلِهَا: بَعْضُهُمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: حُفَاةً عُرَاةً قُلْتُ: وَالنِّسَاءُ؟ قَالَ: وَالنِّسَاءُ.
قَوْلُهُ: قَالَ: الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، يُقَالُ: أَهَمَّهُ الْأَمْرُ، وَجَوَّزَ ابْنُ التِّينِ فَتْحَ أَوَّلِهِ وَضَمَّ ثَانِيهِ مِنْ هَمَّهُ الشَّيْءُ إِذَا آذَاهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَاتِمٍ، عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ: يَا عَائِشُ، الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا نَسْتَحْيِي؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، الْأَمْرُ أَهَمُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute