يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ إِنَّ الْعَرَقَ لَيَبْلُغُ أَنْصَافَ آذَانِهِمْ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْفُوعَ فِي مَعْنَاهُ، وَأَصْلُ الْبَعْثِ إِثَارَةُ الشَّيْءِ عَنْ جَفَاءٍ وَتَحْرِيكُهُ عَنْ سُكُونٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَخُرُوجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَنَحْوُهَا إِلَى حُكْمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ قَالَ: الْوُصُلَاتُ فِي الدُّنْيَا بِضَمِّ الْوَاوِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَبِضَمِّهَا وَبِسُكُونِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَسْبَابُ هِيَ الْوُصُلَاتُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَاحِدَتُهَا وَصْلَةٌ، وَهَذَا الْأَثَرُ لَمْ أَظْفَرْ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَوَدَّةُ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى. وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْمَنَازِلُ، وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: يَعْنِي أَسْبَابُ النَّدَامَةِ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَسْبَابُ الْأَرْحَامُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْحَامُ، وَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ الْمَنَازِلُ فِي النَّارِ. وَوَرَدَ بِلَفْظِ التَّوَاصُلِ وَالْمُوَاصَلَةِ أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَوَاصُلُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَوَاصُلٌ كَانَ بَيْنَهُمْ بِالْمَوَدَّةِ فِي الدُّنْيَا. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، وَلِعَبْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْأَسْبَابُ الْمُوَاصَلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا وَيَتَحَابُّونَ فَصَارَتْ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُوَ الْوَصْلُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَلِعَبْدٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الْأَعْمَالُ، وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْأَسْبَابُ جَمْعُ سَبَبٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى طُلْبَةٍ وَحَاجَةٍ فَيُقَالُ لِلْحَبْلِ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْحَاجَةِ الَّتِي يُتَعَلَّقُ بِهِ إِلَيْهَا، وَلِلطَّرِيقِ سَبَبٌ لِلتَّسَبُّبِ بِرُكُوبِهِ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِقَطْعِهِ، وَلِلْمُصَاهَرَةِ سَبَبٌ لِلْحُرْمَةِ، وَلِلْوَسِيلَةِ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ بِهَا إِلَى الْحَاجَةِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّبَبُ: الْحَبْلُ، وَسُمِّيَ كُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ سَبَبًا وَمِنْهُ: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ أَيْ أَصِلُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْحَادِثَةِ فِي السَّمَاءِ، فَأَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَدَّعِيهِ مُوسَى، وَيُسَمَّى الْعِمَامَةُ وَالْخِمَارُ وَالثَّوْبُ الطَّوِيلُ سَبَبًا تَشْبِيهًا بِالْحَبْلِ، وَكَذَا مَنْهَجُ الطَّرِيقِ لِشَبَهِهِ بِالْحَبْلِ، وَبِالثَّوْبِ الْمَمْدُودِ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ: يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَالرَّشْحُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهُمَا مُهْمَلَةٌ هُوَ الْعَرَقُ شُبِّهَ بِرَشْحِ الْإِنَاءِ لِكَوْنِهِ يَخْرُجُ مِنَ الْبَدَنِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَرَقَ يَحْصُلُ لِكُلِّ شَخْصٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَرَقِهِ فَقَطْ، أَوْ مِنْ عَرَقِهِ وَعَرَقِ غَيْرِهِ، وَقَالَ
عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ عَرَقَ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ بِقَدْرِ خَوْفهِ مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ عَرَقَهُ وَعَرَقَ غَيْرِهِ فَيُشَدَّدُ عَلَى بَعْضٍ وَيُخَفَّفُ عَلَى بَعْضٍ، وَهَذَا كُلُّهُ بِتَزَاحُمِ النَّاسِ وَانْضِمَامِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى صَارَ الْعَرَقُ يَجْرِي سَائِحًا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ كَالْمَاءِ فِي الْوَادِي بَعْدَ أَنْ شَرِبَتْ مِنْهُ الْأَرْضُ، وَغَاصَ فِيهَا سَبْعِينَ ذِرَاعًا.
قُلْتُ: وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا وَقَفُوا فِي الْمَاءِ الَّذِي عَلَى أَرْضٍ مُعْتَدِلَةٍ كَانَتْ تَغْطِيَةُ الْمَاءِ لَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، لَكِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ تَفَاوَتُوا فَكَيْفَ يَكُونُ الْكُلُّ إِلَى الْأُذُنِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَوَارِقِ الْوَاقِعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute