وَصَرَّحَ قَتَادَةُ بِالتَّحْدِيثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةٍ مَضَتْ فِي الْمَظَالِمِ، وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْمُعَلَّقَةُ لِيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَوَصَلَهَا ابْنُ مَنْدَهْ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَرِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ خَالِدٍ، وَعَفَّانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ.
قَوْلُهُ: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ أَيْ نَجَوْا مِنَ السُّقُوطِ فِيهَا بَعْدَ مَا جَازُوا عَلَى الصِّرَاطِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَظَالِمِ: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ جِسْرِ جَهَنَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ كَيْفِيَّةُ مُرُورِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْتَنْفِدُ حَسَنَاتِهِمْ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ مِنْهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْمُرَجَّحِ آنِفًا، وَخَرَجَ مِنْ هَذَا صِنْفَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ; وَمَنْ أَوْبَقَهُ عَمَلُهُ.
قَوْلُهُ: فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ سَيَأْتِي أَنَّ الصِّرَاطَ جِسْرٌ مَوْضُوعٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ وَرَاءَ ذَلِكَ، فَيَمُرُّ عَلَيْهِ النَّاسُ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ النَّاجِي وَهُوَ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، أَوِ اسْتَوَيَا أَوْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْهُمُ السَّاقِطُ وَهُوَ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ إِلَّا مَنْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، فَالسَّاقِطُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ يُعَذَّبُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، وَالنَّاجِي قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ تَبِعَاتٌ، وَلَهُ حَسَنَاتٌ تُوَازِيهَا، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا يَعْدِلُ تَبِعَاتِهِ فَيَخْلُصُ مِنْهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْقَنْطَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فَقِيلَ: هِيَ مِنْ تَتِمَّةِ الصِّرَاطِ، وَهِيَ طَرَفُهُ الَّذِي يَلِي الْجَنَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا صِرَاطَانِ، وَبِهَذَا الثَّانِي جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَسَيَأْتِي صِفَةُ الصِّرَاطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي فِي بَابُ الصِّرَاطُ جِسْرُ جَهَنَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ.
قَوْلُهُ: فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، فَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ زَائِدَةً، أَوِ الْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ اللَّهُ أَوْ مَنْ أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ: فَيَقْتَصُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا بِضَمِّ الْهَاءِ وَبِضَمِّ النُّونِ، وَهُمَا بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ وَالتَّخْلِيصِ مِنَ التَّبِعَاتِ.
قَوْلُهُ: أَذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ كُلُّهُ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ عَفَّانَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى إِلَخْ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِلَخْ، فَأَبْهَمَ الْقَائِلَ، فَعَلَى رِوَايَةِ عَفَّانَ يَكُونُ هُوَ قَتَادَةَ، وَعَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ هُوَ النَّبِيَّ ﷺ، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ مَا يُشَبَّهُ بِهِمْ إِلَّا أَهْلُ الْجُمُعَةِ إِذَا انْصَرَفُوا مِنْ جُمُعَتِهِمْ. وَهَكَذَا عِنْدَ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَرَوْحٍ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ خَالِدٍ وَعَفَّانَ جَمِيعًا عِنْدَ الطَّبَرِيِّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَذَكَرَهُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالْقَائِلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ قَتَادَةُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْقَائِلِ.
قَوْلُهُ: لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا قَالَ الطِّيبِيُّ: أَهْدَى لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ بَلْ بِاللَّامِ أَوْ إِلَى، فَكَأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى اللُّصُوقِ بِمَنْزِلِهِ هَادِيًا إِلَيْهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمَعْنَى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، فَأَقَامَ: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ﴾ إِلَى آخِرِهَا بَيَانًا وَتَفْسِيرًا؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِسَبَبِ السَّعَادَةِ كَالْوُصُولِ إِلَيْهَا.
قُلْتُ: وَلِأَصْلِ الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يُحْبَسُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَا يَجُوزُونَ الصِّرَاطَ حَتَّى يُؤْخَذَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ظُلَامَاتُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ غِلٌّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُحْبَسْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute