أَبِي سَعِيدٍ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الْحُمَيْدِيُّ صَاحِبُ الْجُمَعِ كِتَابًا لَطِيفًا، وَتَعَقَّبَ أَبُو طَالِبٍ عُقَيْلُ بْنُ عَطِيَّةَ أَكْثَرَهُ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ تَحْرِيرُ الْمَقَالِ فِي مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَمَا بَعْدَهُ دَلَالَةٌ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ يَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ شَدَّادٌ أَبُو طَلْحَةَ، وَالْكَافِرُ لَا يُعَاقَبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْلَ الْحَدِيثِ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بِلَفْظِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمَعَ ذَلِكَ فَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: الْحَدِيثُ فِي الشَّفَاعَةِ أَصَحُّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفِدَاءُ فِي قَوْمٍ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ كُفِّرَتْ عَنْهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، وَحَدِيثُ الشَّفَاعَةِ فِي قَوْمٍ لَمْ تُكَفَّرْ ذُنُوبُهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ فِي الْفِدَاءِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفِدَاءُ مَجَازًا عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي أَوَاخِرِ بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَرِيبًا بِلَفْظِ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فِي مُقَابِلِهِ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْفِدَاءِ إِنْزَالُ الْمُؤْمِنِ فِي مَقْعَدِ الْكَافِرِ مِنَ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ أُعِدَّ لَهُ، وَإِنْزَالُ الْكَافِرِ فِي مَقْعَدِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي كَانَ أُعِدَّ لَهُ، وَقَدْ يُلَاحَظُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا﴾ وَبِذَلِكَ أَجَابَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ فَأَوَّلَهَا النَّوَوِيُّ أَيْضًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ تِلْكَ الذُّنُوبَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا سَقَطَتْ عَنْهُمْ وُضِعَتْ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلُهَا بِكُفْرِهِمْ فَيُعَاقَبُونَ بِذُنُوبِهِمْ لَا بِذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَضَعُهَا أَيْ يَضَعُ مِثْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْقَطَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَبْقَى عَلَى الْكُفَّارِ سَيِّئَاتِهِمْ صَارُوا فِي مَعْنَى مَنْ حَمَلَ إِثْمَ الْفَرِيقَيْنِ؛ لِكَوْنِهِمُ انْفَرَدُوا بِحَمْلِ الْإِثْمِ الْبَاقِي وَهُوَ إِثْمُهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ آثَامًا كَانَتِ الْكُفَّارُ سَبَبًا فِيهَا بِأَنْ سَنُّوهَا، فَلَمَّا غُفِرَتْ سَيِّئَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بَقِيَتْ سَيِّئَاتُ الَّذِي سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ بَاقِيَةً لِكَوْنِ الْكَافِرِ لَا يُغْفَرُ لَهُ، فَيَكُونُ الْوَضْعُ كِنَايَةً عَنْ إِبْقَاءِ الذَّنْبِ الَّذِي لَحِقَ الْكَافِرَ بِمَا سَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ السَّيِّئِ، وَوَضَعَهُ عَنِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فَعَلَهُ بِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِهَا، وَالْخُرُوجِ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ، وَهَذَا الثَّانِي أَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ، وَهُوَ الْخَارِكِيُّ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَكَافٍ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا يزيد بْنُ زُرَيْعٍ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ أَيْ قَرَأَ يَزِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفَسَّرَهَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ قَالَ: يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ الْحَدِيثَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ تِلَاوَةَ الْآيَةِ مَرْفُوعٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ رُوَاتِهِ تَلَا الْآيَةَ عِنْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ، فَاخْتَصَرَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الصَّلْتِ مِمَّنْ فَوْقَ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَفَّانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَهَا قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ فَذَكَرَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ سَعِيدٍ فَلَمْ يَذْكُرِ الْآيَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي بِالنُّونِ اسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، وَرِجَالُ السَّنَدِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute