لَهُ مِنْهُ مِنْ مَطْعَمٍ وَمُشْرَبٍ وَتَحَرُّزٍ مِنْ عَدُوٍّ بِإِعْدَادِ السِّلَاحِ وَإِغْلَاقِ الْبَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَى الْأَسْبَابِ بِقَلْبِهِ، بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تَجْلِبُ بِذَاتِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ ضُرًّا، بَلِ السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ فِعْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْكُلُّ بِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا وَقَعَ مِنَ الْمَرْءِ رُكُونٌ إِلَى السَّبَبِ قَدَحَ فِي تَوَكُّلِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ وَاصِلٌ وَسَالِكٌ، فَالْأَوَّلُ صِفَةُ الْوَاصِلِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْأَسْبَابِ وَلَوْ تَعَاطَاهَا، وَأَمَّا السَّالِكُ فَيَقَعُ لَهُ الِالْتِفَاتُ إِلَى السَّبَبِ أَحْيَانًا إِلَّا أَنَّهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِالطُّرُقِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأَذْوَاقِ الْحَالِيَّةِ إِلَى أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَى مَقَامِ الْوَاصِلِ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ
الْقُشَيْرِيُّ: التَّوَكُّلُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَأَمَّا الْحَرَكَةُ الظَّاهِرَةُ فَلَا تُنَافِيهِ إِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، فَإِنْ تَيَسَّرَ شَيْءٌ فَبِتَيْسِيرِهِ، وَإِنْ تَعَسَّرَ فَبِتَقْدِيرِهِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاكْتِسَابِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَفْضَلُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَانَ دَاوُدُ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: كَيْفَ تَطْلُبُ مَا لَا تَعْرِفُ مَكَانَهُ؟ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ السَّبَبَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ، فَيَشُقُّ الْأَرْضَ مَثَلًا، وَيُلْقِي الْحَبَّ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي إِنْبَاتِهِ، وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ لَهُ، وَيُحَصِّلُ السِّلْعَةَ مَثَلًا وَيَنْقُلُهَا، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي إِلْقَاءِ الرَّغْبَةِ فِي قَلْبِ مَنْ يَطْلُبُهَا مِنْهُ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ التَّكَسُّبُ وَاجِبًا كَقَادِرٍ عَلَى الْكَسْبِ يَحْتَاجُ عِيَالُهُ لِلنَّفَقَةِ، فَمَتَى تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ عَاصِيًا.
وَسَلَكَ الْكَرْمَانِيُّ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: لَا يَكْتَوُونَ مَعْنَاهُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ الْكَيِّ، وَقَوْلُهُ: وَيَسْتَرْقُونَ مَعْنَاهُ بِالرُّقَى الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَتَطَيَّرُونَ أَيْ لَا يَتَشَاءَمُونَ بِشَيْءٍ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ أَعْمَالَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَقَائِدِهِمْ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَمَا وَجْهُ الْحَصْرِ فِيهِ؟ وَأَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرَ لَا خُصُوصَ الْعَدَدِ قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَضَى فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ، وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مِنْهَا رِوَايَةُ أَبِي يُونُسَ، وَهَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا، لَا يُحَاسَبُونَ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّ مَعَ السَّبْعِينَ أَلْفًا زِيَادَةً عَلَيْهِمْ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي فَوَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ سِيَاقِ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَزَادَ فَاسْتَزَدْتُ ربي فَزَادَنِي مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَعَنْ ثَوْبَانَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، فَهَذِهِ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَجَاءَ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أكثر مِنْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَلَا عَذَابَ، وَثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي.
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ نَحْوُهُ بِلَفْظِ ثُمَّ يَشْفَعُ كُلُّ أَلْفٍ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يُحْثِي رَبِّي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفَّيْهِ وَفِيهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute