يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَطَّلِعُونَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا: خُلُودٌ فِيمَا تَجِدُونَ لَا مَوْتَ فِيهِ أَبَدًا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَيُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: قَدْ عَرَفْنَاهُ هُوَ الْمَوْتُ الَّذِي وُكِّلَ بِنَا، فَيُضْجَعُ فَيُذْبَحُ ذَبْحًا عَلَى السُّورِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اسْتُشْكِلَ هَذَا الْحَدِيثُ لِكَوْنِهِ يُخَالِفُ صَرِيحَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَنْقَلِبُ جِسْمًا فَكَيْفَ يُذْبَحُ؟ فَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ وَدَفَعَتْهُ وَتَأَوَّلَتْهُ طَائِفَةٌ فَقَالُوا: هَذَا تَمْثِيلٌ وَلَا ذَبْحَ هُنَاكَ حَقِيقَةً وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الذَّبْحُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمَذْبُوحُ مُتَوَلِّي الْمَوْتِ، وَكُلُّهُمْ يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ.
قُلْتُ: وَارْتَضَى هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَحَمَلَ قَوْلَهُ: هُوَ الْمَوْتُ الَّذِي وُكِّلَ بِنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَوِ اسْتَمَرَّ حَيًّا لَنَغَّصَ عَيْشَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا حُزْنَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُمْ يَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ، إِنَّمَا هُوَ تَوَهُّمٌ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زِيَادَةِ الْفَرَحِ ثُبُوتُ الْحُزْنِ، بَلِ التَّعْبِيرُ بِالزِّيَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفَرَحَ لَمْ يَزُلْ كَمَا أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَزْدَادُ حُزْنُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَرَحٌ إِلَّا مُجَرَّدَ التَّوَهُّمِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِرَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ نَفْخِ الصُّورِ عِنْدَ نَقْلِ الْخِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ مِنْهُمْ، وَوَقَعَ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: رَبِّ، بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ: أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي فَمُتْ، ثُمَّ لَا تَحْيَا، فَيَمُوتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ آخِرَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْخَلَائِقِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، مُتْ مَوْتًا لَا تَحْيَا بَعْدَهُ أَبَدًا.
فَهَذَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَكَانَ حُجَّةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الَّذِي يُذْبَحُ لِكَوْنِهِ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْتًا لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْمَوْتُ عِنْدَنَا عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَيْسَ بِمَعْنًى، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَبْشًا وَلَا جِسْمًا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ - تَعَالَى - هَذَا الْجِسْمَ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُجْعَلُ مِثَالًا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَطْرَأُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: الْمَوْتُ مَعْنًى، وَالْمَعَانِي لَا تَنْقَلِبُ جَوْهَرًا، وَإِنَّمَا يَخْلُقُ اللَّهُ أَشْخَاصًا مِنْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ، وَكَذَا الْمَوْتُ يَخْلُقُ اللَّهُ كَبْشًا يُسَمِّيهِ الْمَوْتُ، وَيُلْقِي فِي قُلُوبِ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ يَكُونُ ذَبْحُهُ دَلِيلًا عَلَى الْخُلُودِ فِي الدَّارَيْنِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا مَانِعَ أَنْ يُنْشِئَ اللَّهُ مِنَ الْأَعْرَاضِ أَجْسَادًا يَجْعَلُهَا مَادَّةً لَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ: إِنَّ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَجِيئَانِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا لَا إِلَى غَايَةِ أَمَدٍ وَإِقَامَتَهُمْ فِيهَا عَلَى الدَّوَامِ بِلَا مَوْتٍ وَلَا حَيَاةٍ نَافِعَةٍ وَلَا رَاحَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ قَالَ: فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَأَنَّهَا تَبْقَى خَالِيَةً أَوْ أَنَّهَا تَفْنَى وَتَزُولُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ قُلْتُ: جَمَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَبْعَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا هَذَا الَّذِي نُقِلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ، وَالثَّانِي يُعَذَّبُونَ فِيهَا إِلَى أَنْ تَنْقَلِبَ طَبِيعَتُهُمْ فَتَصِيرُ نَارِيَّةً حَتَّى يَتَلَذَّذُوا بِهَا لِمُوَافَقَةِ طَبْعِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى التَّصَوُّفِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، وَالثَّالِثُ يَدْخُلُهَا قَوْمٌ وَيَخْلُفُهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute