قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيْسَ.
قُلْتُ: وَالْكَيْسُ بِفَتْحِ الْكَافِ ضِدَّ الْعَجْزِ، وَمَعْنَاهُ الْحِذْقُ فِي الْأُمُورِ، وَيَتَنَاوَلُ أُمُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمَا فِي الْحَدِيثِ غَايَةً لِذَلِكَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَفْعَالَنَا وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَنَا وَمُرَادَةً مِنَّا فَلَا تَقَعُ مَعَ ذَلِكَ مِنَّا إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ طَاوُسٌ - مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا - مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُقَدِّرُهُ، وَهُوَ أَنَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ وَاشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ النَّبِيَّ ﷺ فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُؤَالِ جِبْرِيلَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَذَكَرَ هُنَاكَ بَيَانَ مَقَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ قَاطِبَةً أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى، كَمَا قَالَ - تَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَيْنِ.
(الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ) سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، مِنْ رِوَايَةِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّحْدِيثَ وَالْإِنْبَاءَ عِنْدَ شُعْبَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيَظْهَرُ بِهِ غَلَطُ مَنْ نَقَلَ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْإِنْبَاءَ فِي الْإِجَازَةِ، لِكَوْنِهِ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَلِثُبُوتِ النَّقْلِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْإِجَازَةَ وَلَا يَرْوِي بِهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضِيَّةً وَهُوَ أَوْلَى؛ لِتَعُمَّ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ وَعَادَتِهِ، وَالصَّادِقُ مَعْنَاهُ الْمُخْبِرُ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ يُقَالُ: صَدَقَ الْقِتَالُ وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ، وَالْمَصْدُوقُ مَعْنَاهُ الَّذِي يُصْدَقُ لَهُ فِي الْقَوْلِ، يُقَالُ: صَدَقْتُهُ الْحَدِيثَ إِذَا أَخْبَرْتُهُ بِهِ إِخْبَارًا جَازِمًا أَوْ مَعْنَاهُ الَّذِي صَدَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَعْدَهُ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَمَّا كَانَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ أَمْرًا مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى بُطْلَانِ مَا ادَّعَوْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَلَذُّذًا بِهِ وَتَبَرُّكًا وَافْتِخَارًا، وَيُؤَيِّدُهُ وُقُوعُ هَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لَيْسَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بُطْلَانِ شَيْءٍ يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ، وَمَضَى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ اشْتُهِرَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَعْمَشَ تَفَرَّدَ بِهِ حَتَّى وَجَدْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ.
قُلْتُ: وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَرَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَيْضًا، وَقَعَ لَنَا فِي الْحِلْيَةِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ زَيْدٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بَلْ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَلْقَمَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَأَبُو وَائِلٍ فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ، وَمُخَارِقِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، كِلَاهُمَا عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مُخْتَصَرًا، وَكَذَا لِأَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَنَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ فِي فَوَائِدِ الْعِيسَوِيِّ، وَخَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ الْخَطَّابِيِّ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ; وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، مِنْهُمْ أَنَسٌ، وَقَدْ ذُكِرَ عَقِبَ هَذَا، وَحُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي القَدْرِ لِابْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute