يَخْلُقَ مِنْ ذَلِكَ جَنِينًا، هَيَّأَ أَسْبَابَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ قُوَّتَيْنِ قُوَّةَ انْبِسَاطٍ عِنْدَ وُرُودِ مَنِيِّ الرَّجُلِ حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي جَسَدِ الْمَرْأَةِ، وَقُوَّةَ انْقِبَاضٍ بِحَيْثُ لَا يَسِيلُ مِنْ فَرْجِهَا مَعَ كَوْنِهِ مَنْكُوسًا وَمَعَ كَوْنِ الْمَنِيِّ ثَقِيلًا بِطَبْعِهِ، وَفِي مَنِيِّ الرَّجُلِ قُوَّةُ الْفِعْلِ، وَفِي مَنِيِّ الْمَرْأَةِ قُوَّةُ الِانْفِعَالِ، فَعِنْدَ الِامْتِزَاجِ يَصِيرُ مَنِيُّ الرَّجُلِ كَالْإِنْفَحَةِ لِلَّبَنِ، وَقِيلَ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قُوَّةُ فِعْلٍ وَانْفِعَالٍ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ فِي الرَّجُلِ أَكْثَرُ وَبِالْعَكْسِ فِي الْمَرْأَةِ، وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّشْرِيحِ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَلَدِ إِلَّا فِي عَقْدِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تُبْطِلُ ذَلِكَ، وَمَا ذُكِرَ أَوَّلًا أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجَمْعِ مُكْثُ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ، أَيْ: تَمْكُثُ النُّطْفَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تُخَمَّرُ فِيهِ حَتَّى تَتَهَيَّأَ لِلتَّصْوِيرِ، ثُمَّ تُخْلَقُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَّرَهُ بِأَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا بَشَرًا طَارَتْ فِي جَسَدِ الْمَرْأَةِ تَحْتَ كُلِّ ظُفُرٍ وَشَعْرٍ، ثُمَّ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَنْزِلُ دَمًا فِي الرَّحِمِ، فَذَلِكَ جَمْعُهَا.
قُلْتُ: هَذَا التَّفْسِيرُ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَوْلُهُ: فَذَلِكَ جَمْعُهَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ أَوْ تَفْسِيرُ بَعْضِ رُوَاةِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَظُنُّهُ الْأَعْمَشَ، فَظَنَّ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ تَتِمَّةُ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَأَدْرَجَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةِ خَيْثَمَةَ ذِكْرُ الْجَمْعِ، حَتَّى يُفَسِّرَهُ، وَقَدْ رَجَّحَ الطِّيبِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ، فَقَالَ: الصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِتَفْسِيرِ مَا سَمِعَ وَأَحَقُّ بِتَأْوِيلِهِ وَأَوْلَى بِقَبُولِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ وَأَكْثَرُ احْتِيَاطًا فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يَتَعَقَّبَ كَلَامَهُ، قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَفَعَهُ مَا ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ، وَلَفْظُهُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ عَبْدٍ فَجَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلُّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ، وَفِي لَفْظِ: ثُمَّ تَلَا: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ يَوْمِ السَّابِعِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي هَذَا زِيَادَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ يَحْصُلُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَأَنَّ فِيهِ ابْتِدَاءَ جَمْعِ الْمَنِيِّ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ جَمْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْأَرْبَعِينَ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي تُقْضَى مِنْهَا النَّفْسُ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَحَادَرَتْ دَمًا فَكَانَتْ عَلَقَةً. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً أَذِنَ اللَّهُ فِي خَلْقِهَا. وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْهُ، أَنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ. وَعِنْدَهُ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ، وَفِي نُسْخَةٍ: ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، قَالَ مِثْلَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَفِي رِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا يَأْذَنُ لَهُ لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ عَمْرٍو فَقَالَ: خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَجَزَمَ بِذَلِكَ فَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذِكْرِ الْأَرْبَعِينَ، وَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَغَالِبُهَا كَحَدِيثِ أَنَسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ لَا تَحْدِيدَ فِيهِ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ نَقَلَتِهِ؛ فَبَعْضُهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute