للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ اللُّوَّمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ إِذْ كَانَ نَهَاهُ فَبَاشَرَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ.

قَالَ: وَقَوْلُ مُوسَى وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مِنْهُ شُبْهَةٌ، وَفِي ظَاهِرِهِ تَعَلُّقٌ لِاحْتِجَاجِهِ بِالسَّبَبِ لَكِنَّ تَعَلُّقَ آدَمَ بِالْقَدَرِ أَرْجَحُ، فَلِهَذَا غَلَبَهُ. وَالْغَلَبَةُ تَقَعُ مَعَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا تَقَعُ مَعَ الْبُرْهَانِ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ فِي أَعْلَامِ الْحَدِيثِ نَحْوَهُ مُلَخَّصًا وَزَادَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى دَفَعَ حُجَّتَهُ الَّتِي أَلْزَمَهُ اللَّوْمَ بِهَا. قَالَ: وَلَمْ يَقَعْ مِنْ آدَمَ إِنْكَارٌ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ، بَلْ عَارَضَهُ بِأَمْرٍ دَفَعَ بِهِ عَنْهُ اللُّوَّمَ. قُلْتُ: وَلَمْ يَتَلَخَّصْ مِنْ كَلَامِهِ مَعَ تَطْوِيلِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ دَفْعٌ لِلشُّبْهَةِ إِلَّا فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْآدَمِيِّ أَنْ يَلُومَ آخَرَ مِثْلَهُ عَلَى فِعْلٍ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ وَنَهَاهُ. وَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: وَمَا الْمَانِعُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَنْ يُبَاشِرَهُ مَنْ تَلَقَّى عَنِ اللَّهِ مِنْ رَسُولِهِ، وَمَنْ تَلَقَّى عَنْ رُسُلِهِ مِمَّنْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُمْ؟

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِ فَكَانَ لَوْمُهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ نَوْعَ جَفَاءٍ، كَمَا يُقَالُ: ذِكْرُ الْجَفَاءِ بَعْدَ حُصُولِ الصَّفَاءِ جَفَاءٌ، وَلِأَنَّ أَثَرَ الْمُخَالَفَةِ بَعْدَ الصَّفْحِ يَنْمَحِي حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَلَا يُصَادِفُ اللَّوْمَ مِنَ اللَّائِمِ حِينَئِذٍ مَحَلًّا انْتَهَى. وَهُوَ مُحَصَّلُ مَا أَجَابَ بِهِ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ السَّابِقِ، وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ لِآدَمَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَشَهَادَتِهِ بِأَنَّهُ غَلَبَ مُوسَى فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مُوسَى لَا يَلُومُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَقَدْ قَتَلَ هُوَ نَفْسًا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ فَكَيْفَ يَلُومُ آدَمَ عَلَى أَمْرٍ قَدْ غُفِرَ لَهُ؟ ثَانِيهَا لَوْ سَاغَ اللَّوْمُ عَلَى الذَّنْبِ بِالْقَدَرِ الَّذِي فُرِغَ مِنْ كِتَابَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَصِحُّ هَذَا لَكَانَ مَنْ عُوتِبَ عَلَى مَعْصِيَةٍ قَدِ ارْتَكَبَهَا فَيَحْتَجُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَانْسَدَّ بَابُ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، وَلَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى مَا يَرْتَكِبُهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَهَذَا يُفْضِي إِلَى لَوَازِمَ قَطْعِيَّةٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا أَصْلَ لَهُ.

وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ آدَمَ إِنَّمَا احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا الْمُخَالَفَةِ، فَإِنَّ مُحَصَّلَ لَوْمِ مُوسَى إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِخْرَاجِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَكُمُ الَّذِي رَتَّبَ الْإِخْرَاجَ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرةِ، وَالَّذِي رَتَّبَ ذَلِكَ قَدَّرَهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَكَيْفَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ لِي فِيهِ نِسْبَةٌ إِلَّا الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْإِخْرَاجُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِي. قُلْتُ: وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ شُبْهَةَ الْجَبْرِيَّةِ.

ثَانِيهَا: إِنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ لِآدَمَ بِالْحُجَّةِ فِي مَعْنَى خَاصٍّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ لَمَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَوْمُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ وَلَا أَخَذَهُ بِذَلِكَ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَخَذَ مُوسَى فِي لَوْمِهِ، وَقَدَّمَ قَوْلَهُ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَنْتَ وَأَنْتَ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ عَارَضَهُ آدَمُ بِقَوْلِهِ: أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ وَأَنْتَ وَأَنْتَ. وَحَاصِلُ جَوَابِهِ إِذَا كُنْتَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ كَيْفَ يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهُ لَا مَحِيدَ مِنَ الْقَدَرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْغَلَبَةُ لِآدَمَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَلُومَ مَخْلُوقًا فِي وُقُوعِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَكُونُ الشَّارِعُ هُوَ اللَّائِمُ، فَلَمَّا أَخَذَ مُوسَى فِي لَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَارَضَهُ بِالْقَدَرِ فَأَسْكَتَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ آدَمُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَدَرُ وَالْكَسْبُ، وَالتَّوْبَةُ تَمْحُو أَثَرَ الْكَسْبِ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَابَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَدَرُ، وَالْقَدَرُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لَوْمٌ لِأَنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.

ثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عِنْدِي مَخْصُوصٌ بِآدَمَ لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ بَيْنَهُمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ قَطْعًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ فَحَسُنَ مِنْهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مُوسَى لَوْمَهُ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تِيبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ لَامَهُ عَلَى ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ كَمَا لَوْ قَتَلَ أَوْ زَنَا أَوْ سَرَقَ: هَذَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَلُومَنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ