الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ لَوْمِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ مَحْمَدَةِ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الطَّاعَةِ.
قَالَ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ وَهْبٍ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ آدَمَ بَعْدَ أَنْ تِيبَ عَلَيْهِ.
رَابِعُهَا: إِنَّمَا تَوَجَّهَتِ الْحُجَّةُ لِآدَمَ لِأَنَّ مُوسَى لَامَهُ بَعْدَ أَنْ مَاتَ، وَاللَّوْمُ إِنَّمَا يُتَوَجَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ حِينَئِذٍ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ، فَيُلَامُ الْعَاصِي وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ وَلَا تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ لِأَنَّ مَرْجِعَ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُثَنِّي الْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، بَلْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ التَّثْرِيبِ عَلَى الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْمُ مُوسَى لِآدَمَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ انْتِقَالِهِ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ، وَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ غَلَبَ مُوسَى بِالْحُجَّةِ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ صَارَ ذِكْرُ مَا صَدَرَ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ كَالْبَحْثِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ الْقَضَاءُ السَّابِقُ، فَلِذَلِكَ غَلَبَ بِالْحُجَّةِ.
قَالَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا قَامَتْ حُجَّةُ آدَمَ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ لِيَجْعَلَهُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فَلَمْ يَحْتَجَّ آدَم فِي أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ بِسَابِقِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ كَانَ عَنِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِالْقَدَرِ لِخُرُوجِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ آدَمَ أَبٌ وَمُوسَى ابْنٌ وَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَلُومَ أَبَاهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّ آدَمَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَلُومَ أَبَاهُ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا غَلَبَهُ لِأَنَّهُمَا فِي شَرِيعَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ أَنَّ الْمُخَالِفَ يَحْتَجُّ بِسَابِقِ الْقَدَرِ، وَفِي شَرِيعَةِ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ أَوْ أَنَّهُ يُتَوَجَّهُ لَهُ اللَّوْمُ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَأَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَمْتَزِجَ مِنْهُمَا جَوَابٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّائِبَ لَا يُلَامُ عَلَى مَا تِيبَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا انْتَقَلَ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ.
وَقَدْ سَلَكَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْمَسْلَكَ فَقَالَ: مَعْنَى كَلَامِ آدَمَ أَنَّكَ يَا مُوسَى تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَلَوْ حَرَصْتُ أَنَا وَالْخَلْقُ أَجْمَعُونَ عَلَى رَدِّ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْهُ لَمْ نَقْدِرْ فَلَا تَلُمْنِي فَإِنَّ اللَّوْمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَإِذَا تَابَ اللَّهُ عَلَيَّ وَغَفَرَ لِي زَالَ اللَّوْمُ فَمَنْ لَامَنِي كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَاصِي الْيَوْمَ لَوْ قَالَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ قُدِّرَتْ عَلَيَّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ عَنِّي اللَّوْمُ قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ هَذَا الْعَاصِي بَاقٍ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَاللَّوْمِ، وَفِي ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ زَجْرٌ وَعِظَةٌ، فَأَمَّا آدَمُ فَمَيِّتٌ خَارِجٌ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الزَّجْرِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلَوْمِهِ فَائِدَةٌ، بَلْ فِيهِ إِيذَاءٌ وَتَخْجِيلٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْغَلَبَةُ لَهُ.
وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَلْزَمَنِي بِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَثْبَتَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ، وَحَكَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُحَاجَجَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ عِنْدَ مُلْتَقَى الْأَرْوَاحِ وَلَمْ تَقَعْ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَالَمَ الْأَسْبَابِ لَا يَجُوزُ قَطْعُ النَّظَرِ فِيهِ عَنِ الْوَسَائِطِ وَالِاكْتِسَابِ بِخِلَافِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ بَعْدَ انْقِطَاعِ مُوجِبِ الْكَسْبِ وَارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَلِذَلِكَ احْتَجَّ آدَمُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ.
قُلْتُ: وَهُوَ مُحَصَّلُ بَعْضِ الْأَجْوِبَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ التَّعْرِيضِ بِصِيغَةِ الْمَدْحِ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ آدَمَ لِمُوسَى: أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ إِلَى آخِرِ مَا خَاطَبَهُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى عُذْرِهِ وَعَرَفَهُ بِالْوَحْيِ، فَلَوِ اسْتَحْضَرَ ذَلِكَ مَا لَامَهُ مَعَ وُضُوحِ عُذْرِهِ، وَأَيْضًا فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لِمُوسَى فِيهِ اخْتِصَاصٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ لَمْ يَقَعْ إِخْرَاجِي الَّذِي رُتِّبَ عَلَى أَكْلِي مِنَ الشَّجَرَةِ مَا حَصَلَتْ لَكَ هَذِهِ الْمَنَاقِبُ لِأَنِّي لَوْ بَقِيتُ فِي الْجَنَّةِ، وَاسْتَمَرَّ نَسْلِي فِيهَا